02-يونيو-2020

وسائل الإعلام التي استندت في تغّطيتها على التشفّي انقلبت إلى مادّة للسخرية (AFP)

ينشغل الشارع العربي وتحديدًا العراقي بالاحتجاجات الأمريكية التي اندلعت عقب وفاة مواطن أسود البشرة في ولاية مينيسوتا مختنقًا بأرجل شرطي أمريكي، وأعادت مشاهد المصادمات الذاكرة العراقية أشهر بسيطة إلى الوراء حيث احتجاجات تشرين وما رافقها من أعمال عنف راح ضحيتها آلاف الشهداء والجرحى بالرصاص الحي والقنابل الغازية الموجهة نحو الرؤوس.

رمزية فلويد ليست كرمزية صفاء السرّاي. أصبح الأول مناسبةً ودافعًا لرفض الاضطهاد العنصري، فيما كان صفاء واحدًا من جيش قُتِل ظلمًا في العراق طوال سنوات

من الطبيعي أن يعقد المحتج العراقي المقارنات بين طريقة احتجاجه السلمية وتعامل قوات الأمن في بلاده بالمقابل، وبين طريقة احتجاج الأمريكيين وما شابها من اعتداءات وسرقات وحرائق وتعامل قوات الأمن بالمقابل. ولعل الفخر يجتاحنا حين نرى علو السلوك الحضاري للفرد العراقي على نظيره الأمريكي رغم الفوارق الشاسعة في تطور المجتمعين على جميع الصعد؛ أوضاعهما المعيشية، فساد النظام وظلمه، غياب المؤسسات والقانون والعدالة إضافة إلى العنف المفرط المستخدم في حالة تشرين، والأهم في هذا السياق ليس المفاضلة لناحية المحتجين، بل هي اللطمة التي وجهتها المقارنات إلى وجه السفهاء الذين لا يعتبرون أبناء جلدتهم بشرًا مثل شعوب الدول المتطورة. إن مظاهر التكسير والسرقة ستكون الوسيلة السهلة للجم المقولات العنصرية بين عامّة الناس الذين لا ينزعون لعقد المقارنات المعقدة.

وقفة مع الذات

لكي لا تأخذنا العزّة والزهو، ولنبقى في واقعنا المؤلم، لا بد من الإشارة إلى قديمٍ جديدٍ نتعلم منه الدروس: قيمة الروح بالنسبة للإنسان الأمريكي وردة الفعل حين أُزهِقت ظُلمًا. رغم وجود عوامل كثيرة دفعت الناس للنزول إلى الشوارع ومنها القضايا الجهوية والاقتصادية والانقسام العرقي والثقافي في المجتمع الأمريكي، إلا أن الثابت والمحرّك الأساس للتظاهرات هي مقتل رجل أسود البشرة، وقد رافق البيض السود في احتجاجاتهم كما أظهرت المقاطع المصوّرة. لقد ثارت ثائرتهم لجورج فلويد واتخذوه رمزًا لرفض فعل شائن يشعرون أنه سيطالهم جميعًا إنْ تغاضوا عنه. هناك إحساس أمريكي بالإهانة الشخصية في مثل هذه القضايا يغيب عن مجتمعاتنا التي ـ نتيجة للاستبداد ـ قلّما ثأرت لظلم فرد أو مجموعة حتى يطال الظلم الجميع بالتدريج.

اقرأ/ي أيضًا: تفاعل عراقي مع أحداث مينيابوليس الأمريكية.. انتفاضة تشرين في المقارنة

لا بد من التفكير مليًا قبل أن نشعر بالسعادة لأن مجتمعًا متحضرًا هاجم محالًا تجارية. علينا أن نأخذ الدروس من السبب الذي دفعه إلى النزول للشارع مع الأخذ بما فعله إثر ذلك (طريقة التعبير)، ونقارنه مع سحق رؤوس الآلاف من نظرائنا في المواطنة دون أن نحرّك ساكنًا. إن رمزية فلويد ليست كرمزية صفاء السرّاي. أصبح الأول مناسبةً ودافعًا لرفض الاضطهاد العنصري، فيما كان صفاء واحدًا من جيش قُتِل ظلمًا في العراق طوال سنوات.

وقفة مع ترامب

في إطار المقارنات، تجدر الإشارة لسلوك رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب، وليس بالغريب على رجل اعتاد أن يتصدر "ترند" الإعلام ومواقع التواصل في تصريحاته المبتذلة، لكنه مُلفتٌ مرةً أخرى بسبب موقعه. يتحدث ترامب عن فوضويين تتزعمهم حركة "أنتيفا" وعصابات منظمة ويساريين راديكاليين في التظاهرات، ويُهدد المتظاهرين بإطلاق النار ويقول إن الكلاب المسعورة تنتظرهم إذا تجاوزوا سور البيت الأبيض ويأمر بنزول الحرس الوطني إلى الشوارع، ويصف مواطنيه بالإرهاب. تصريحاته وقرارته تدفع المرء أن يتساءل ماذا كان سيحصل لو أن الموقع الجغرافي لعمل ترامب تغير من واشنطن إلى إحدى العواصم العربية؟ كيف سيتعامل لو كان حاكمًا لنظام استبدادي كما في منطقتنا؟ وما هي الفروق الجوهرية بين تصريحاته و "من أنتم".. "فقاعة".. "أهل الشر".. و "الجراثيم".. إلخ؟

علينا ـ نحن الشعوب الناطقة بالعربية ـ ألّا ننجر إلى توق "نخبنا" الحاكمة لرؤية مظاهر قمع وبطش في الولايات المتحدة. ينبغي ألّا تكون همجية الحكم على سلّم أمنياتنا. قمع المتظاهرين في دولة مثل أمريكا ليس خبرًا جيدًا لنا كبشر يريدون حياة أفضل لهم وللكوكب، وليس من مصلحتنا أن تتصرف الدولة الديمقراطية الأقوى في العالم مثل سوريا ومصر والعراق وليبيا. وإذا كان نجاح النموذج السوري في قمع الناس ساهم في تعميم التجربة "الناجحة" للأنظمة العربية في الدفاع عن وجودها بالحديد والنار ضد الشعوب المنتفضة، فكيف سيكون تأثير نموذج الولايات المتحدة حين تمارس العنف المفرِط بالنسبة لبقية الدول؟

رغم أن النظام الأمريكي لديه من المرونة ما يُمكّنه من منع انزلاق الأمور لفوضى مشابهة لما حدث في بلادنا، لكنه ـ إن حدث ـ سيكون إحدى المسارات المؤلمة في القرن الحديث وضربة قوية للنموذج الديمقراطي وحقوق الإنسان حول العالم.

أنظمتنا المريضة

ما هو غير طبيعي في تلقّي أخبار الاحتجاجات الأمريكية في منطقتنا، ردود فعل الأحزاب العراقية ووسائل الإعلام التابعة لها حول الاحتجاجات، التي وصلت مرحلة من الهستيريا أن توجه نصائح في الديمقراطية وحرية التظاهر وتدعو المؤسسات الدولية للتدخل وإنقاذ المتظاهرين في الولايات المتحدة من داخل الدولة التي قُتِل فيها شباب أعزل بالقناص!

مظاهر العنف الجماهيري ستكون وسيلة بسيطة لرد المعتقدين بتفوق العنصر الغربي، ستكون مادة لتبرير أي أعمال عنف محلية تُمارس مستقبلًا

سنكون عاجزين عن فهم الغاية "العملية" من الاهتمام المفرط لأحزاب السلطة بالتظاهرات الأمريكية إن انطلقنا من اعتماد معايير "الواقعية" و"الذكاء" في فهم محرّكات خطواتهم ومقاصدها. لي تجربة من الدهشة مع تعاطي وسائل إعلام عربية وخليجية لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا قبل أربعة أعوام. تساءلتُ عن مغزى تلك التغطية المحمومة التي انتابها المزيد من الكذب والافتراء؛ لناحية تأثيرها في الداخل التركي الذي لا يفهم العربية وتغيير المعادلة هناك، لناحية تأثيرها على الداخل العربي.. ما هي الغاية العملية من ذلك؟ لم أجد جوابًا غير أنها عملية تشفٍ من قادة الدول المالكة لتلك المؤسسات الإعلامية بخصومٍ سياسيين. ثم أن وسائل الإعلام التي استندت في تغّطيتها على التشفّي انقلبت إلى مادّة للسخرية بعد فشل الانقلاب.

اقرأ/ي أيضًا: بين تظاهرات العراق وأمريكا: مطربة الحي لا تطرب

كذلك، لا يُمكن فهم حالة التعاطي الحزبي العراقي بالأُطر المنطقية للعمل الصحفي حتى بوصفه أداةً للضغط، فهي هنا لا تزيد عن كونها وسيلة لإسعاد المسؤولين وهم يتفرجون على شاشاتهم الممولة من السرقات والفساد مظاهر الفوضى في الولايات المتحدة لتخفف الشعور بالعار اتجاه الدماء التي سالت في محافظاتهم، وهي مناسبة لتغيير الأجواء على صحفييهم الذين شعروا بالملل من تكرار دعوة المضطهدين والمقموعين في بلادهم إلى السلمية.

في ذات السياق، ربما يكون الدافع النفسي الذي يُحاول ساسة العراق تصديره لأنفسهم وجماهيرهم عبر نشاطاتهم هو: أن الفوضى ليست خاصة بنا. نحن لسنا مجرد هواة في قيادة الدولة لا نصلح إلا للفساد والقتل والتبعية للخارج كما تُخبرنا كل الشواهد. هذه الدولة الديمقراطية العظمى تسودها الفوضى والعنف، ذلك ليس حكرًا علينا.

إنها على أية حال وسائل للترويح عن النفس.

يعجز المرء عن فَهِم مغزى صناعة "بروباغندا" في مثل هذه المواقف. ولشدّة عدم إيماني بذكائهم وحكمتهم يتملّكني شعور بأنهم يعتقدون بتأثيرهم على الأحداث الأمريكية؛ لكن ما لا يفهمه هؤلاء أن مشاهد العنف الجماهيري في الولايات المتحدة سيعطي بعض الحافز للشباب العراقي في كسر آخر ما تبقى من حاجز الخوف والشعور بالتقييد في احتجاجاتهم.

 تُساهم وسائل الإعلام والقنوات الحزبية في دفع الشباب للقفز على مخاوفهم من عدم الالتزام بالسلمية التي ناضلت تلك الأحزاب وقنواتها للتركيز عليها (وليس الحقوق) كموضوع أساس في تغطيتها لتظاهرات تُطالب بالحقوق. وكما أن مظاهر العنف الجماهيري ستكون وسيلة بسيطة لرد المعتقدين بتفوق العنصر الغربي، ستكون مادة لتبرير أي أعمال عنف محلية تُمارس مستقبلًا.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

هل تغير أحداث أمريكا نظرتنا لانتفاضة تشرين؟

نائب عن العصائب يستنكر استخدام العنف ضد المتظاهرين في أمريكا