30-ديسمبر-2019

تظاهرات في شارع الرشيد بعد منتصف القرن الماضي (تراث العراق)

"العاطلون عن العمل يملأون الشوارع، نساؤهم وأطفالهم لا يملكون ما يقتاتون به؛ هل فكرت الحكومة بمساعدتهم في هذا الطقس البارد؟ لم يحصل أي شيء من هذا.. لأن الحكومة ليست إلّا عصابة تعمل ضد الشعب". أول بيان شيوعي كتبه فهد صدر في كانون الأول/ديسمبر1932. 

يعلمنا ماركس أن الجهل بالتاريخ يعني مزيدًا من التكرار، وغياب الوعي التاريخي يحيل الأحداث التاريخية برمّتها إلى عملية استدعاء متواصل للماضي. بمعنى آخر، لا توجد أي حركة تقدمية حقيقية، ولا يمكن الهروب من الماضي، فنتحوّل إلى كائنات ماضوية، لا هم لها سوى تكرار التاريخ وتدويره بأشكال تعبيرية مختلفة، غير أن المضامين تحمل نفس الجوهر.

الزمن العراقي، زمن دائري، يرجع الماضي متحدًا مع "الحاضر"، وهذا الأخير وعي مزيّف، وانعكاس مشوّه للحاضر يستلهم منه العراقيون وعيهم باستمرار

يحدث هذا لسبب بسيط جدًا، وهو عدم أخذ العبرة من الماضي، وإلّا ما الفائدة المرجوة من قراءة التاريخ، طالما تبقى خطايا الأسلاف كما هي، منظورًا إليها كأفعال "مُلهمة". وفي تاريخ العراق السياسي، على سبيل المثال، يمنحنا الماضي قوة إضافية لترسيخ الاستبداد في وضعنا الراهن. ومهما يكن من أمر، ثمّة فارق واضح بين الحاضر والماضي؛ فإذا غاب هذا الأخير تصح تسمية الحدث الراهن على أنه حاضر، وبخلافه يغدو الزمن ساكنًا ورتيبًا وصورة مشوّهة من صور الماضي. ومن هنا يمكن القول إن الزمن العراقي، زمن دائري، يرجع الماضي متحدًا مع "الحاضر"، وهذا الأخير وعي مزيّف، وانعكاس مشوّه للحاضر، يستلهم منه العراقيون وعيهم باستمرار. ويبدو أن قضية "السحل" و" تعليق الجثث"، مثلًا، ما زالت قضية مُحببة لدى الكثير!

اقرأ/ي أيضًا: الصراع بين جيل الاستبداد وجيل الديمقراطية

 إن إشكالية الأمس هي عينها إشكالية اليوم لم يتغير منها شيء. في تاريخ العراق السياسي يبدو "حاضرنا" انعكاسًا لماضينا: تضخّم السلطة على حساب الدولة، الطائفية والعرقية، إقطاعيات سياسية مهيمنة اعتمادًا على ديمقراطية شكلية، استبداد بآليات الحديد والنار، سياسة الانتقام المتبادل والتهميش والإقصاء، الاعتماد على "الميليشيات" كقوة رديفة عن المؤسسة العسكرية والأمنية، فساد الطبقة السياسية وتبديد ثروة البلد وظهور مافيات الفساد بكثرة، وتمزق النسيج الاجتماعي وعدم التجانس.

يذكر حنا بطاطو، في الكتاب الثاني، إن العراق كان ويبقى، وإن بدرجة أقلّ، بلدًا لكثير من القبائل والطوائف والأعراق المختلفة ذات الآراء المختلفة والانفعالات المختلفة والأهواء المختلفة. وبشكل أكثر تحديدًا، فإن عدم الاستقرار هذا كان نتيجة طبيعية لعدم الحسم مزدوج الأوجه وطويل الأمد، بين المناطق الصغيرة للاستيطان الدائم -المدن النهرية- ورجال القبائل الرحّل وأشباه الرحّل في السهول والجبال المحيطة على الأقاليم المنتجة للغذاء أو القابلة للزراعة من ناحية، وبين المدن الرئيسية النهرية، بغداد، والبلدان الأصغر ذات العقلية الاستقلالية من ناحية أخرى، وكانت إحدى نتائج هذه الأوضاع؛ النظر إلى حكومة بغداد، المحطمة تقليديًا للقبائل والمدن - الدول، باعتبارها عدوًا. وفي بغداد نفسها كان الحكام ينعزلون إلى حد كبير عن أولئك الناس الذين يمارسون إرادتهم عليهم، وكان السبب إلى كونهم يميلون للاستبداد.

ومثل هذه التركيبة الاجتماعية أنتجت لنا حلقة مغلقة من طبقة من الحكام المستندين أساسًا، على التحالف القائم بين الملّاكين البيروقراطيين، والضباط الشريفيين السابقين، الذين تحولوا إلى ملّاكين، والمشايخ الملاكين، وأصحاب المصالح المالية، قد اعتادت النظر إلى الطبقات الأخرى على أساس أنها غير ناضجة وليست ذات حقوق سياسية. كتبت السيدة نوّارة الهاشمي، زوجة وزير الدفاع طه الهاشمي، الذي أثار استياء الوصي على العرش، فنفاه إلى إسطنبول: "الفئران تتكاثر بسرعة وإلى درجة أن عدد القطط السمان لم يعد كافيًا، والناس الذين كانوا في السابق يركبون عربات تجرّها الثيران صاروا يقودون اليوم سيارات وجيوبهم ملأى بأوراق اللعب".

ومن ناحية أخرى لعبت التمايزات الطائفية دورًا بارزًا في تقاسم السلطة، حيث كانت "السمة السنية للحكومة"، كما يذكر بطاطو، التي جعلتها،  في أعين الأكثرية الشيعية، رمزًا لاغتصاب السلطة، وقد حوّلت هذه الأكثرية، العداء الشعبي إلى فعل إيمان. كتب أحد مؤسسي الحزب الشيوعي، وهو مهدي هاشم (وهو ابن لمؤمن شيعي) يقول: "ليس في كل السلك الدبلوماسي إلّا اثنين من الشيعة، ومن أصل 80 من الضباط الأركان الموجودين في الجيش العراقي ليس هنالك إلّا ثلاثة عائلات شيعية، في حين أن 90 بالمئة من الجنود هم من أبناء المجتمع الشيعي". ومن هنا صرّح القيادي في الحزب الشيوعي جميل توما عام 1958: "رحلتي الأولى إلى الولايات المتحدة غيرت نظرتي إلى الحياة كليًا، وعندما عدت إلى العراق بدا لي قاحلًا وكئيبًا. وكانت الأوضاع فيه تصرخ مطالبة بالتغيير".

طوال تاريخ العراق السياسي كانت الصورة الأبرز فيه هي الصراع المحموم على السلطة على حساب بناء مؤسسات ومجتمع منسجم مع تطلعات الدولة الحديثة

وفي الحقيقة لم تتغير المعادلة كثيرًا، بعد التغيير، من ناحية تضخيم السلطة؛ فقد كان المشهد السياسي بعد 1958 يشهد فورة عالية للصراع على السلطة، الأمر الذي دفع المهيمنين إلى تعزيز نفوذهم بقوة الميليشيات الشيوعية (المقاومة الشعبية)، ثم جاء الدور لميليشيا الحرس القومي لتدخل في دوامة انتقام مرعبة من السلطة السابقة وهكذا دواليك. كل شيء يمكن الاختلاف عليه إلا هذه الحقيقة: الصراع المحموم على السلطة على حساب بناء مؤسسات ومجتمع منسجم مع تطلعات الدولة الحديثة. وبعد هذا العرض السريع، وغير الوافي لكثير من الحقائق المتشابهة، هل ثمة من يجرؤ لعلى توصيف الحدث السياسي الراهن بأنه "لحظة" جديدة وخلاصة استلهامات من الماضي؟ أعتقد أن مراجعة تاريخنا السياسي بتفصيل أكثر، وهو ما لا تسعه هذه المقالة القصيرة، ستبين لنا ربما أن حاضرنا السياسي ما هو إلا نسخة مشوهة ومكررة من ماضينا.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ماضي الاستعمار وحاضره: تعدد أدوار ووحدة هدف (1ـ2) 

ماضي الاستعمار وحاضره: تعدد أدوار ووحدة هدف (2ـ2)