25-يوليو-2019

للذات قابلية هائلة لأن تبدو على خلاف ما هي عليه

لا أحد منّا يختار الصورة السيئة لشكله الخارجي والداخلي للتعامل به مع الآخرين. فسواء كنّا أفرادًا أم جماعات، نميل إلى ظاهرة إثارة إعجاب الآخرين، لكن على حساب طيبتنا المتأصّلة ووضوحنا المحبب، فنختار التقمّص، بدلًا من الوضوح الناتج عن الطيبة، لكي يرضى عنّا الآخرون.

 نميل نحن كأفراد إلى إثارة إعجاب الآخرين، لكن على حساب طيبتنا المتأصّلة ووضوحنا المحبب، فنختار التقمّص، بدلًا من الوضوح الناتج عن الطيبة، لكي يرضى عنّا الآخرون

يمكن لشخصياتنا أن تتشظى إلى قطع متعدّدة كما المرآة المتكسّرة، كل شظية تحمل جزءًا ضئيلًا من شخصياتنا الحقيقية. وبقدر ما ينطبق علينا هذا الحال كأفراد، فأنه ينطبق على نحو العموم، على الجماعة، لأن العناصر المكوّنة لهذه الأخيرة هم الأفراد.

اقرأ/ي أيضًا: ما هي أصنامنا الذهنية؟

صحيح أن الجماعة تهيمن عليها مقولات عامّة، ومتخيل خاص بها لا يمكن للأفراد التلاعب به، غير أن الفرد لا يذوب وينصهر كليًا مع الجماعة، إذ تبقى هويته الشخصية كفرد فاعلة وحيوية ومؤثرة. معنى هذا أن أمراضه الشخصية ترافقه حتى لو كان في جماعة  تضغط عليه بمزيد من نكران الذات.

غير أن المهم في الأمر هنا، هو تمرين لفهم الذات الفردية، وليس فهم الجماعة. نعم يمكن استخلاص بعض التمارين التي تنطبق على الفرد والمجتمع على حد سواء.

إن للذات قابلية هائلة لأن تبدو على خلاف ما هي عليه؛ جميلة بشوشة ولطيفة مع الجنس الآخر، وديعة مسالمة ولبقة مع الغرباء، مملة منفرة في العلاقات الزوجية، متذمّرة مشاكسة مع الوالدين، نبيلة مثالية مهمومة في العوالم الافتراضية. يمكن لنا أن نراقب هذا التقمّص وسنرى العجب العجاب!. لكن، قد يبدو هذا العرض معلومًا ومألوفًا بشكلٍ عام. 

غير أن ما يخامر الذهن أكثر أهمية من العرض أعلاه، وهو الأسئلة التالية: لماذا تبدو ذواتنا كشظايا المرآة، أي أن هذه الذات تبدو متكثرة في شظايا المرآة ومتقطعة الأوصال، ولا تظهر كامل ملامحها. ولكثرة الاعتياد على هذا الأمر أضحى ظاهرة روتينية و"طبيعية".

 للذات قابلية هائلة لأن تبدو على خلاف ما هي عليه؛ جميلة بشوشة ولطيفة مع الجنس الآخر، وديعة مسالمة ولبقة مع الغرباء، مملة منفرة في العلاقات الزوجية

لماذا لا نكتفي بشخصية واحدة مع الجميع، بمعنى أن نبقى بنفس النقاوة والوضوح والتلقائية التي نستخدمها مع البعض، ونغدو مملّين ومنفّرين مع البعض الآخر؟ حتى لو كان الآخر منفّرًا على سبيل المثال، فنحن في حالات أخرى ومع شخص مماثل لا نفعل المثل، بل ربما نتملّقه، ونرضيه إذا كانت مصلحتنا مرهونة برضاه عنّا. هل ثمّة فصام ونفاق حاد نعانيه فنخفيه بين ركام هذه التقمّصات لكي لا تنكشف ذواتنا الحقيقية، أم أنه النفاق الاجتماعي الذي يسقط نماذجه علينا لنرضيه بأي ثمن كان؟

اقرأ/ي أيضًا: مكانة الذات في النظم الاستهلاكية

 إذا كان النفاق الاجتماعي هو السبب - وهو مؤثر على كل حال - فلماذا إذًا نرضى ونستسلم لبعض الأشكال دون أخرى، بمعنى إننا مستسلمون وانتقائيون بالقدر الذي نختاره من هذه الشخصية أو تلك، مع عدم الاستهانة بضغط المجتمع طبعًا؟ بالتأكيد أن الخوف من النبذ والإقصاء يثيران الرعب في نفوسنا لكي لا نبدو وحيدين. لكن - من وجهة نظر بسيطة - نلاحظ الكثير من الأفراد "المتمرّدين" ممّن يكترثون كثيرًا - بشكل وبآخر- لإملاءات المجتمع، يقعون بذات التقمص، أي أنهم يشتركون بمعاناة تشظي الذات؟

بل أكثر من ذلك: إن تصرفاتنا ومجمل تعاملاتنا اليومية مع أقرب الناس- كالزوجة والأولاد والوالدين وغيرهم-  تتخذ نفس السلوك، أي ذات التقمص. وبالطبع نحن لا نعاني في هذه الحالة من ضغط الأقرباء لنظهر لهم الشخصية المناسبة، بل نحن نختارها بإرادة منّا. ويمكننا في ذات اللحظة أن نتلبس الشخصية المناسبة مع شخص آخر غير الأقرباء.

 إن الظهور بمظهر النبيل والثوري والمحب لحقوق المرأة في العوالم الافتراضية، يأتي بعيدًا عن ضغوطات المجتمع؛ فصاحبنا حر وحيد متفرد في توزيع منشوراته "القيّمة"، وسردياته / تقمّصاته الخاصة بمعزل عن أي ضغوطات. بمعنى أنه حر طليق ليس معه سوى ذهنه المهووس بالعيش في أكثر من شخصية. وهكذا إذا واصلنا تفكيك العناصر المكونة لهذه الشخصيات سنكتشف أن النقطة الجوهرية التي تضغط على هذه الذات أو تلك للظهور في الحدث المناسب (أو بصورة أدق: التقمّص المناسب!)، هو شعور  نتعايشه في كل لحظة، لكن لشدّة ألفته لم نعد نلتفت إليه كمحرك أساس لكل معاناتنا وسعادتنا المشروطة.

 وبما أن تقمص الشخصيات الذي يؤدي إلى تشظي الذات وانشطارها إلى عدة أجزاء يعتبر نوع من أنواع المعاناة، فهي مشمولة بهذا الشعور: إنه الشعور بالوجود!..

لماذا لا نكتفي بشخصية واحدة مع الجميع، بمعنى أن نبقى بنفس النقاوة والوضوح والتلقائية التي نستخدمها مع البعض، ونغدو مملّين ومنفّرين مع البعض الآخر؟ 

  لكن الشعور بالوجود ليس بالضرورة يدفع باتجاه تشظي الذات؛ فإذا سلّمنا به "كمفهوم" عام للمعاناة، وجواب مركزي عن سؤال المعاناة،  إلّا أنه طبقًا لسلسلة المؤثرات فإنه يبقى "علّة بعيدة"، أو مفهوم عام، ونحن نحتاج إلى "علّة قريبة"  ومفهوم خاص يفسر لنا ظاهرة التشظّي.

اقرأ/ي أيضًا: 5 نصائح لزيادة احترام الذات والتخلص من عقدة النقص

ولكي لا نسهب كثيرًا، نقول: ثمّة شعور أقرب من مفهوم الوجود، وهو بمنزلة الفرع، وسيكون هو المسؤول المباشر عن هذه الظاهرة: إنه الشعور المستمر بالأهمية.. مفهوم "الأنا" التي تنسب كل أشكال الوجود لها: "هذا لي"، وعلى هذا المنوال تمنح الشخصية ذلك الشعور الذي يقنعها بأهميتها القصوى على الآخرين.

أنا أكثر أهمية من غيري، فلابد لي من الظهور بشخصية تناسب هذا الشعور.. لا بد لي من التفوق على الحرباء! لكي أغطي كل زاوية أبدو فيها مهمًا ومميزًا. إنه العمق الأسود الذي تغرق فيه سفننا وتتفرع منه جميع معاناتنا، وهو "الجوهر" الأساس لكل أشكال الاستلاب النفسية التي نعانيها، ما يجعلنا نتجاهله بالمرّة!، لأننا منسجمون ومتآلفون معه، لأنه أصبح "ماركة مسجّلة" لهوياتنا الشخصية، فلا يقبل المرء سلخ جلده وهو حي!.

لكنّه يبدأ بالتلاشي تدريجيًا ما إن نرى الآخرين أكثر أهمية منّا، ونرجع بالتدريج إلى شخصيتنا الطيبة والواحدة!، وهذه الرجوع ترافقه "استنزافات" عدّة، منها:

  • إننا سنظهر للآخرين بشخصية واحدة لا ترتضيها الكثير من أنماط النفاق الاجتماعي.
  • سوف يختفي بريقنا المزعوم وكل محاولاتنا الكفاحية لإثارة إعجاب الآخرين.
  •  ستتبخر الكثير من " الجوقة" التي تأخذ عدّة عناوين، كعنوان "الأصدقاء" مثلًا.

لكن في نهاية المطاف، سنكسب احترام الذات واكتشاف معنى أن تكون إنسانًا متواضعًا!. مثلما نرى الناس البسطاء: أينما كانوا وحلّوا لا يستخدمون سوى شخصياتهم، لأنهم لا يرون أنفسهم بهذه الأهمية، التي نراها نحن المنفوخين وسط فراغ لا تستوعبه حتى الثقوب السوداء.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عقوبات رمزية وحفلات لجلد الذات

عن عالمنا الموازي الجديد.. فيسبوك!