31-يوليو-2021

درجات الحرارة العليا تصيب الفرد بالهذيان (فيسبوك)

يتفاعل العراقيون في مواقع التواصل الاجتماعي بعد كل حدثٍ سياسي يقع سواء في مشرقنا العربي أو في الدول المجاورة. وفي الجانب الآخر نجد العكس تمامًا، أي أن شعوب هذه الدول لا يتفاعلون مع أحداثنا السياسية ما عدا الإعلام وأخباره الرسمية. وإن حدث وأن تفاعل الرأي العام الشعبي هناك، فهو بالتأكيد لا يُقارن بحجم الطاقة الحماسية اللافتة التي يتمتع بها الجمهور السياسي العراقي. يتفاعل العراقيون مع الأحداث السياسية الإيرانية، ولمجرد أن  يخرج الشعب الإيراني متظاهرًا صرخ الكثير من العراقيين تقديسًا للحرية والكرامة والديمقراطية و"الموت لولاية الفقيه". حدث نفس الشيء عندما قام أردوغان بجملة اعتقالات واسعة  ضد خصومه، فكتبت في ذلك العام (2016): "يلهمنا الحدث الانقلابي التركي درسًا بليغًا وفي الصميم حول هشاشة العَلمانية حينما تفرض من فوق! سوف تبقى مستندة على قاعدة هشّة ومتزلزلة يمكنها أن تقلب الأمور في أي لحظة. إن صندوق الاقتراع التركي يمكنه أن يتحول - كما يحلو للعسكر- إلى صندوق رمادي، صندوق فارغ من محتواه يقلّبه الجنرال كيفما يشاء". وقد انقسم فيها العراقيون وقتها إلى قسمين كالعادة. المهم أن الأمثلة كثيرة ووفيرة حول حماس العراقيين للأحداث الخارجية، وكالعادة لا الأتراك ولا الإيرانيين ولا السعوديين متفرغين للدخول في مونديالات العراقيين السنوية في "فيسبوك". والمشكلة تكمن في بلائنا المستمر: غياب الدولة وتضخيم السلطة.

 لم نسمع أو نعاين في تاريخنا السياسي أن الانقلابات السابقة كانت مقدمة لبناء الدولة، بل كانت مقدمة في تعزيز هرم السلطة القبلية

 وتحت تأثير درجات الحرارة الجهنمية يغلي مرجل العرقيين بشتى التناقضات. إن صيفنا اللاهب يجعل من الفرد في تناقض شديد، وعلينا ألا ننسى أن درجات الحرارة العليا تصيب الفرد بالهذيان. وهذا ما يحدث لسكّان مواقع التواصل الاجتماعي في كل دورة صيفة لاهبة. وهذه المرة مع الحدث التونسي الذي توَّجَه الرئيس الجديد قيس سعيّد بإلغاء الحكومة الحالية، فهبّ مدونو الفيسبوك للإدلاء بدلوهم. وكالعادة، وبما أننا لم نغادر أشهر الصيف اللاهبة، داهمتنا متلازمة التناقض، ونسينا كل الثورات الرقمية التي حدثت في شهر تموز الجاري بمناسبة ذكرى 14 تموز. لا زالت آثار البصاق رطبة في مواقع التواصل الاجتماعي على ما أحدثته لحظة 1958، ولا زال صدى السباب واللعن والشتائم يتناقل في زوايا فيسبوك حول هذا الحدث السياسي.  ثم يفاجئنا المدونون بتأييدهم لأسلوب الانقلابات طالما يضمن قمع الإسلاميين. في بلد مثل العراق، يرغب الحالمون بدكتاتور لطيف وناعم الملمس يترجم لهم أحلامهم الوردية؛ يبني مؤسسات ويقيم صرح الدولة ويعطي هامش من الحريات ويزلزل الأرض تحت أقدام التنظيمات الإسلامية، وإلخ من هذا الهذيان الصيفي ذو العيار الثقيل. لكن كل وقائع تاريخنا السياسي لا يتوفر فيها ما يحلمون به؛ يوجد عبد الكريم قاسم (الذي أشبعوه شتمًا منذ خمسة عشر يومًا)، ويوجد عبد السلام عارف (ولم نذكر أخيه عبد الرحمن عارف، فالرجل خرج بانقلاب أبيض ولم يتلوث تاريخه بدماء العراقيين)، ويوجد صدام حسين ( النموذج الذي قمع الإسلاميين أليس كذلك؟!). كانت نهايات هؤلاء مرعبة وخلفت حجمًا من الدمار لا زلنا ندفع ثمنه، وإحدى نتاجاته سلطة الخضراء التي قبلت بالديمقراطية لأنها تضمن الهيمنة للأغلبية الطائفية التي كانت محرومة من التمثيل السياسي نتيجة لحسنات الدكتاتور.

اقرأ/ي أيضًا: صداع العراقيين السنوي

لذلك، لم نسمع أو نعاين في تاريخنا السياسي أن الانقلابات السابقة كانت مقدمة لبناء الدولة، بل كانت مقدمة في تعزيز هرم السلطة القبلية عبر الإمضاء الشعبي المباشر وغير المباشر، من بعض الشرائح الاجتماعية، على تأليه الشخص. إن الدكتاتور لا يُحال على التقاعد في العراق؛ إما يموت او يُقتَل، وفي كلا الأمرين يترك وراءه أحداثًا مُروّعَة.  المشكلة إننا لا نريد أن نفهم: نسقط على الواقع آليات جامدة غير قابلة للتطبيق. نتصور أن الواقع يمكنه أن يتماشى مع صيغنا المنطقية المجردة. أوفياء لتجريداتنا الذهنية، وعدوانيون جدًا تجاه الواقع. فيحدث التنافر بين ما نريد وبين الوقائع المعاشة. 

يقول الواقع إن الديمقراطية لا تأتي من فوق؛ أما أن نعترف بميولنا الخفية للاستبداد وأشواقنا القلبية لشخص المستبد، أو نفهم أن الديمقراطية والاستبداد لا يجتمعان. لا يمكن نكران الوقائع لمجرد كرهنا الشديد للحركات الإسلامية وننتصر للاستبداد لمجرد أنه داعب رغباتنا النفسية! هذه التنظيمات لديها حاضنة شعبية واسعة، والقبول باستبدال طغيان بطغيان آخر يظهر نفاقنا المستور. ذلك أن الطغيان، والفساد أحد أوجهه الناصعة، ليس ماركة إسلامية، وهذا ليس وسام شرف نعلقه على صدر التنظيمات الإسلامية الفاسدة بالطبع، وإنما نريد التوضيح "أن الفساد ملّة واحدة" كما يخبرنا هادي العلوي؛ فسواء كنّا قوميين أو يساريين أو إسلاميين فعملتنا الفاسدة واحدة مع اختلاف أوجهها. إن التنظيمات الإسلامية تحمل بذور دمارها من داخلها، أما قمعها من الخارج فسيخلّف الآثار المرعبة، وهذا ما نتعايشه الآن.

 اللعبة كالآتي: أما أن نقبل بالاستبداد كبديل سياسي «واقعي»، كما يحلو للبعض تسميته، أو نفهم أن الديمقراطية صيرورة وممارسة وبنية تحتية لكل عمل سياسي عقلاني. المهم أن نعترف صراحة مع أي جهة نميل بلا لف أو دوران، فكلام "فيسبوك" يمحوه النهار! عن نفسي وكمواطن عاصر حقبة استبداد مرعبة، ولا زال يكابد نفس الآلام مع النظام الحالي، لا أقبل أن يسوقني معتوه مستبد مرة أخرى، بحجة قمع الحركات الدينية ثم يستأنف بعدها حقبة استمطاء جديدة. أما بالنسبة لعشاق الاستبداد، الذين يبررونه تحت ذريعة قصور العراقيين عن ممارسة الديمقراطية، كما لو أنها نزلت مغلفة من السماء للأوروبيين، يمكنهم أن ينظموا أنفسهم ويوضحوا لجمهورهم "محاسن" الاستبداد في المشرق العربي بالاعتماد على تاريخنا السياسي طبعًا وليس تاريخ الغير!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

السؤال المسكوت عنه

مأساتنا بين معسكرات الحق والباطل: 14 تموز أنموذجًا