28-مايو-2021

جردة حساب أولية (فيسبوك)

منذ بدايات تشكّل ملامح الدولة الحديثة في بلداننا تحت وطأة الاستعمار، وحتى يوم الناس هذا، تناوبت على تسنم سلطة هذه الدولة، نخب متعددة تتبع مشارب فكرية متنوعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأن نظرة خاطفة على مجمل هذا التاريخ السياسي يسمح لنا بأن نرى أن هذا التناوب السياسي كان يتبع المنطق الخلدوني في رؤيته لقيام الدول وسقوطها، والقائم على أساس التغلب والعصبية، بدل أن يتبع منطق التداول السلمي على السلطة المتناسب مع الدولة الحديثة ومنطقها، ولكن المضمون التسلطي الذي وسم الدولة عندنا استبدل هذا المنطق بمنطق التداول العسكري على السلطة من غير إيلاء كبير أهمية لمسألة الشرعية بصورها المتعددة، لا نريد أن نحكم بالعدمية السياسية على كل تاريخنا السياسي الحديث، فأنه بلا شك يحمل لحظات مضيئة هنا وهناك، ولكنها للأسف كانت استثنائية، هكذا كان حال النخب الحاكمة وحال معارضاتها  بصورة عامة ''إلا من رحم ربي''، من حيث رؤيتها إلى السلطة بوصفها مغنمًا شخصيًا تتناهب عليه المخالب الأقوى، هذا كلام يدركه الأعم الأغلب ممن درس تاريخنا السياسي.

لا تولد الأحزاب السياسية من رحم التأملات المجردة وإنما تولد من رحم الواقع وتحدياته وإشكالياته

سنحاول في هذه المقالة التفكير في محاولة تسعى لبناء معارضة تختلف نوعًا من حيث أنها لا تستهدف السياسة بصورة مباشرة عبر السعي إلى تسنم السلطة بأقصر الطرق، بل تحاول بناء مشروع اجتماعي يوفر الركائز الأساسية لقيام الدولة أولًا، وأننا نرى أنه بدون التوفر على مثل هذا المشروع سنبقى نراوح في دورة من الفشل. نحن نرى أن إمكانات بناء هذا المشروع بعد تشرين، وما وفرته من معطيات باتت وافرة من دون أن نستسهل عملية البناء هذه.

مدخل منهجي

لا تولد الأحزاب السياسية من رحم التأملات المجردة، وإنما تولد من رحم الواقع وتحدياته وإشكالياته محاولة الاستجابة لهذه التحديات الموضوعية، وجبهها جبهًا نظريًا وعمليًا، ولا أقصد أن هذه الظروف تلد الأحزاب بصور ميكانيكية جبرية، وإنما تحكم ولادتها آلية دينامية جدلية تفرض على هذا هذا الحزب أو ذاك إشكالاته الرئيسة، وربما فلسفته وأهدافه والوسائل التي يتبعها لتحقيق تلك الأهداف من غير أن تخضعه إخضاعًا تامًا فينأسر لها، وهنا يتجلى ربما دور العامل الذاتي الذي يمثل الطرف الآخر من المعادلة الجدلية، ومن هنا تنبع التعددية التشخيص للإشكاليات، وكذلك تتنوع طرق المعالجة النظرية، وتختلف مسالك التحقيق العملي لتلك الحلول، ينبغي أن تؤخذ هذه المعادلة بوصفها كلًا لا يتجزأ في أي عملية نقد لحزب ما أو كيان سياسي أو تنظيم معين، هذه  الأزواج المفهومية المتقابلة ''نظريًا"، نظري /عملي، موضوعي /ذاتي، هدف/ وسيلة تمثل مداخل منهجية مهمة في هذه القراءة وهذا التقييم، وبالتأكيد، فإن هذا الأمر يستدعي قراءة مركبة لهذه الظاهرة تتدرج من الوصف إلى التفسير والتقييم والتوصية باستخدام مناهج متعددة من علم الاجتماع  السياسي إلى النظرية السياسية، والتي لا ندعي إحاطتنا بها جميعًا إحاطة تامة ودقيقة، ولكن الوعي بمستويات المعالجة والمناهج المناسبة وإدراك المواقع بصورة موعى بها ربما يجنبنا الكلام السائب، فمثلًا لايمكن غض النظر عن ظروف ولادة الحزب في قراءتنا لممارساته أو نوع خطابه وإشكالياته، وكذلك بنية  تنظيمه، على صعيد آخر، لا يمكن تقييم الخطاب النظري والممارسة العملية بعيدًا عن المتطلبات الواقعة التي طرح الحزب نفسه بوصفه مقومًا لها، لا خاضعًا لمنطقها خضوعًا تامًا، فينزلق ربما إلى الانتهازية بدعوى الواقعية، أو يتعالى عن هذه المتطلبات ولا يستحيب لشروطها، فيحلق في عالم المثل بدعوى الطهرانية. هذه نمذجة نظرية نحسبها توفر محاولة قراءة نزيهة للظاهرة الحزبية في تاريخيتها، وسنحاول تطبيقها على الأحزاب والكيانات السياسية المنبثقة ما بعد تشرين والتي تمت إليها بصلة.

مخاضات الولادة

كان يمكن للحركة الاحتجاجية أن تحافظ على عفويتها التي وسمت شرارة انطلاقها لولا إدراك قطاعات واسعة من قلب هذه الحركة بضرورة التنظيم، لكن رافق هذه الرغبة تردد منشأه التبرم من الظاهرة الحزبية وإعلان القطيعة معها من قبل شريحة كبيرة داخل وخارج تشرين، هذا التوتر ما بين الرغبة في التنظيم بوصفه المسلك الوحيد الذي يمكن هذه الحركة من قطف الثمار المرجوة لها، هذه الرغبة التنظيمية من جهة، والتبرم من ''الحزبية السياسية'' من جهة أخرى، نرى أنه شرط حكم عملية ولادة التنظيمات وتكوينها، وأثر في شكلها ومنحاها من جانب ''من غير أن يقتضي ذلك وحدة الاستجابة والتأثير والتفاعل''، وطرح أمامها سؤالًا هو من الصعوبة بحيث تقتضي الإجابة عنه الموازنة بين الأمرين، ما بين الرغبة والخوف، وهذا مخاض عسير.

اقرأ/ي أيضًا: تنظيمات ما بعد تشرين: من المقاطعة إلى الممارسة

يمكن اشتقاق شرط آخر من شروط الولادة المؤثرة في تكوين تلك التنظيمات وتطورها واشتغالها، وذلك بتحليل ظاهرة التبرم من ''الحزبية السياسية'' نفسها، لم تخرج هذه الظاهرة إلى الوجود صدفة، وإنما كانت لها مقدماتها المثقلة بتجربة تاريخية من الفشل حملته أحزاب سياسية منغلقة على نفسها أيديولوجيًا وذلك بتبنيها قيمة سياسية مركزية وتهميش بقية القيم، هذه القطبية السياسية في دول لم تستقر بها حال الدولة على شكلها المفترض بما هي وعاء للتعددية لا يمكن أن تعبر عن نفسها الا بالرديفين؛ الاستبداد والفساد.. حتى ألفينا أنفسنا نفتقد جميع القيم السياسية الأساسية والتي جاءت تشرين لتكشف عن غيابها ولتعبر عنها بوصفها قيمًا لا تقبل أن تؤخذ مجزأة من قبيل، الهوية الوطنية، الحرية، العدالة الاجتماعية، الاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وهذا يفسر فشل تلك الأحزاب التقليدية ببنيتها القطبية عن استيعاب هذا التعدد القيمي. نحسب أن هذا كان شرطًا آخر حكم عملية الولادة لتلك التنظيمات، ويطرح عليها سؤال الدولة بما هو سؤال استيعابي لا يمكن اختزاله في بعد واحد، من شأن هذا الخيار أن يحرر هذه التنظيمات من تلك المركزية الأيديولوجية إلى فضاء التعددية الأرحب، وكما أشرنا في المقدمة المنهجية، فإن هذا ليس خيارًا يطرح على تلك التنظيمات، إلا بالقدر الذي فرضته المعطيات، والتي جاء اليأس والخوف  من ''الحزبية السياسة'' مؤشرًا ودليلًا عليه، هذا هو المناخ الذي ولدت من رحمه تلك التنظيمات، فهل قدمت عنه أجوبة شافية؟

خلاصة.. جردة حساب أولية.. توصيات

بعد أن سردنا مخاضات الولادة التي أثرت تكوينينا في بنية التنظيمات الاحتجاجية ووضعت أمامه الأسئلة المتطابقة مع تلك  الحاجات التاريخية، يبقى أمامنا أن نصوغ تلك الأسئلة صياغة واضحة لنرى في ضوئها مقدار الأجوبة التي قدمتها تلك التنظيمات، ونحن لن نقوم بهذا التقييم، بل سنتركه للقارئ إذا ما وافقنا حول معيارية هذه الأسئلة، يتعلق السؤال الأول بشكل التنظيم ومنحاه العام، وهل يحقق التوازن بين الرغبة والخوف؟ أي هل هذا التنظيم/الحزب هو حزب سياسي/انتخابي بالدرجة الأساس؟ أم هو تنظيم يستهدف تشكيل جبهة معارضة خارج منزلق السلطة والأطر السياسية المعهودة. السؤال الآخر يتعلق بمحتوى ومضمون التنظيم/الحزب، وهل أن هذا التنظيم يعبر عن قيمة مركزية معينة ليمثل مصالح قطاع معين فيدخل في لعبة الاستحواذ والسلطة، أم أنه تنظيم يعبر عن كل القيم المنشودة لبناء الدولة، وباختصار؛ هل هو مشروع سلطة أم مشروع دولة؟ 

نرى أنه من المبكر الحكم والتقييم، وذلك لحداثة هذه التنظيمات من ناحية وتعددها من ناحية أخرى، ولكن بصورة إجمالية نري أن كثيرًا من تنظيمات ما بعد تشرين تحاول أن تقدم أجوبة مناسبة عن تلك الأسئلة، وأن كان الشوط أمامها طويلًا. كذلك يمكن  اعتبار هذه الأسئلة التقييمية هي أيضًا توصيات ومقترحات التي أعقبت عملية الوصف والتفسير والتقييم، لا ادعي أنها جاء ثمرة تأملات منفردًا، بل هي تمثل ورشة فكرية ساهم فيها باحثون كثر من قلب العملية الاحتجاجية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

معادلة المحنة العراقية وإنتاج البديل السياسي

وماذا بعد مقاطعة الانتخابات؟