01-يونيو-2020

مواقع التواصل الاجتماعي هي المسرح الكبير الذي يعبّر عن خيباتنا (فيسبوك)

مواقع التواصل الاجتماعي لا تعكس قضايانا الحقيقية، أعني أنها مقطوعة الصلة بالواقع. إن أغلب مواقفنا التي نتخذها لا تعبّر بالضرورة عن طبيعة الحدث الحقيقية، وإنما ننساق مع مزاج الرأي العام (الافتراضي) لنغدو مقبولين، حسب طبيعة الحدث، إن كان منتشرًا وتلوكه ألسنة الناس سننساق معه ونحوز على نجومية سريعة. وهذا ما يحدث في مواقع التواصل الاجتماعي، فجأة يحصل إجماع على قضية ما وتغدو نبرة الخطاب متشابهة.

يندر جدًا اتخاذ مواقف أخلاقية، مواقف تتعلق بالمبادئ التي نؤمن بها، بل مواقف تؤهلنا للحظوة والإعجاب والمقبولية ووهم التميّز

 إن اتخاذ موقف ما لا ينبع من نظرة موضوعية محايدة، وإنما تابع ومتأثر بالدوافع النفسية التي تتحكم بنا. يندر جدًا اتخاذ مواقف أخلاقية، مواقف تتعلق بالمبادئ التي نؤمن بها، بل مواقف تؤهلنا للحظوة والإعجاب والمقبولية ووهم التميّز ومجاملةً لمن ينجذبون لمثل هذه المواقف. والصادم في هذا الأمر أن أكثر حالات الإعجاب تتمحور حول التخوين والتسقيط والفضائح. ولهذه الثقافة جمهور غفير يجد السلوى والعزاء في هذا التوجه المؤسف. فيبدو هذا الفضاء الرقمي شعبويًّا بامتياز؛ لا مكان فيه للطروحات العقلانية، لأنه وفي نهاية المطاف، فضاء لتمضية الوقت، أو يمكنه أن يكون كل شيء إلّا التداول الفكري.  ولو توقف الأمر على تمضية الوقت والإعلانات التجارية لكان الوضع طبيعيًا ومفهومًا، لكن أن يتحول إلى حفلات جماعية للتسقيط والتخوين في كل حدث سياسي أو اجتماعي فهذا غير مفهوم ويسجّل علامة أخلاقية تدعو للقلق.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى شاب عراقي

 يمكنك أن تشاهد "ثورة" فيسبوكية حول قضية إنسانية، لكنّك لا تجد لها تأثيراً في المجتمع. على العكس من ذلك: إن ثقافة الفضائح والتخوين تتمتع بجمهور غفير وتتفوق على أي جمهور آخر. بعضنا يستخدم هذه المواقع ليتقمّص شخصيته التي يحلم بها، أو شخصيته الحقيقية التي يتنفس من خلالها في العالم الافتراضي، بسبب القيود التي تفرضها عليه القيم والمعايير الاجتماعية، فهو بذلك مثل السجين الذي يتظاهر في معتقل كبير. وبنفس الوقت يستبيح لعدائيته كل الحدود الممكنة للتشفّي بالآخرين.

 إنّ ذلك الشخص الودود الخجول طيب المعشر الذي اعتدنا عليه في الواقع، يتحوّل إلى شخص نزق وكريه في هذا العالم الأزرق. لذلك يمكن اعتبار مواقع التواصل الاجتماعي مسرح كبير يعبّر عن خيباتنا، وبعبّر كذلك عن رغباتنا التي فقدناها في الواقع. واعتقد أن الهم الأول والأخير لدى الكثير هو إطلاق العنان لشخصياتهم الحقيقية الممنوعة من الظهور في الواقع. لذلك، شخصيًا، اعتدت على عدم أخذ الكثير من ردود الأفعال العدائية من الفيسبوكيين، لأنّها تنطلق من معاناة شديدة يكابدها معظمنا وهي عدم الشعور بالاهتمام الكافي، فالعالم الافتراضي فرصة مثالية لنتنفس هذه السموم الذهنية. فمن هنا نرى أن أكثر ما يرغبه سكّان العالم الأزرق وينساقون معه هو ثقافة الفضائح أو محاولة تسقيط من يجري بالضد من رغباتهم.

 لذلك أعتقد أن أكثر من يميلون إلى الفضائح هم من ضحايا النبذ الاجتماعي. إن خوفهم المتأصّل من عدم الاعتراف بهم وهاجسهم المتواصل حول عمليات النبذ والإقصاء التي يتعرضون لها، سواء كانت عمليات فعلية أو رمزية، يلهمهم باستمرار من الثأر لذواتهم المجروحة. وبالطبع لا يأتي الانتقام والفضح المستمر للآخرين على شكل اعتراف صريح؛ فلكي يكتسب فعلهم الثأري مشروعية معينة يتوسّلون طرق تعبيرية مقنعة، مثل دفاعهم المستميت عن قضية اجتماعية أو سياسية ليمرروا من خلالها طرقهم الكيدية والثأرية وفضح الآخر الذي يمثّل لهم عقبة نفسية! أما في الواقع، فلا تحظى كل هذه الأمور بنسبة ضئيلة من اهتماماتهم، فمنطق "حشر مع الناس عيد" هي القاعدة المعمول فيها عند هذه الفئات.

إن الكثير من القطعان التي تسخر من بعض الكتّاب وتتهمهم باتهامات يصل إلى مرحلة هتك الأعراض، أو يختارون الفكر كنقطة اختلاف بينهم وبين أضدادهم. في الحقيقة لا علاقة لهم بالفكر، لا من قريب ولا من بعيد، بقدر ماله علاقة بمأزقهم النفسي الذي تنخره سموم الحسد والغيرة والشعور بكره الذات. هم يعلمون أكثر من غيرهم عدم وجود اختلاف فكري بما هو اختلاف، أو لا اهتمام لهم أصلًا بطبيعة الاختلاف، فالموضوع يتعدّى الاتهامات ويتعدى قضايا الفكر.. هنالك دوافع نفسية أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير؛ فمن يريد أن يهاجمك - لدواعٍ مختلفة - يحتاج إلى شكلٍ تعبيري قريب لنزعاته التبريرية، وقريب إلى مزاج الرأي العالم، ذلك أن الظواهر الأقرب إلى الحس تبدو أكثر تداولًا وأقلّ جدلاً وأسرع للتصديق، كاتهامهم المستمر لخيانة المثقف، فهذه التقليعة أسرع للدخول إلى قلوب الجماهير، فيستطيعون من خلالها تفريغ حمولتهم النفسية. بينما تضمر وتتلاشى الظواهر البعيدة كونها لا تقفز سريعًا إلى النفس وتساهم في انفعالاتها المرضية الشائعة، وإنما هي محركات خفية، والناس بطبيعتها لا تفكر بقدر ما تطلق الأحكام. من الصعب للغاية أن يفصح الناس عن دوافعهم الخفية تجاه تصرفاتهم، فـ"الإنسان حيوان مبرر". 

تنشط هذه الكائنات المجروحة في مواقع التواصل الاجتماعي، وتعطيها هذه الأخيرة زخمًا نفسيًا هائلًا لممارسة أفعالها المشينة تحت حجاب الشخصيات المستعارة، أو شخصيات لم يُسَلّط الضوء عليها كفايةً في الواقع الافتراضي والواقعي. فهي مستعدة للذود عن كبريائها المجروح بكل السبل المتاحة مقابل الاعتراف بها كذوات لها وجود!

.يمكن اعتبار مواقع التواصل الاجتماعي المسرح الكبير الذي يعبّر عن خيباتنا، وبعبّر كذلك عن رغباتنا التي فقدناها في الواقع

 لا توجد لدي دراسة تحليلية تعزّز هذه "الفرضية" بقدر ما توجد مشاهدات يومية في الواقع الفعلي والافتراضي استمع إلى صرخات هؤلاء الناس غير المباشرة وهي تقول: اعترفوا بنا لكي لا نسعى للتعويض المفرط! يمكنكم أن تستنتجوا عدد الشخصيات التي تعرفونها في الواقع الافتراضي التي ينطبق عليها هذا الافتراض وأن تُعمِقّوا معها صلة التعاطف قبل أن تلتهم نفسها انتقامًا لنفسها!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الجماعات وخصومها: العلاج بالتخوين!

لماذا لا نتغيّر؟