23-أكتوبر-2021

يفترض بتيار التغيير من خارج النظام كسب تيار المقاطعة إلى جانبه (Getty)

معلوم لبعض المختصين والمهتمين بالشأن السياسي، أن أي نظام إذا ما أغلق الباب على نفسه محكوم عليه بالانهيار عاجلًا أو آجلًا، ولعل الاتحاد السوفيتي من الأمثلة البارزة على ذلك، فمن بين أبرز أسباب تفككه إصابته بالشيخوخة وعجز نخبته، وحيلولته دون ولوج فئات جديدة تجدد دمائه، وكانت حركة غورباتشوف المتأخرة كصدمة كهربائية لرجل عجوز متهالك لم يقدر على قوتها مما أدى إلى وفاته، ولا يقتصر هذا الأمر على جنبة الأنظمة السياسية والسلطة، بل قد يصل إلى مستوى الفرد. إذًا يعد التغيير قاعدة من قواعد الحياة البشرية البارزة، والصراع يقع في صلبه، سواء أكان بين أولئك الذين يحكمون والذين لا يحكمون، بين من يملكون ومن لا يملكون، بين السادة والعبيد حسب الفهم الهيغلي، بين قوى الواضع الراهن والقوى التعديلية حسب فهم غيلبن، أو هو يقع بسبب التفاوت الطبقي حسب الفهم الماركسي. ولعل أبرز الصراعات تلك التي تحدث في قمة الهرم وأقصد السلطة، وربما لا يوجد أكثر ما يغري الناس منها وفي سبيلها قد يخسرون حياتهم، أنها السبيل الأعظم الذي يمنحهم الشعور بالمكانة والتفرد على غيرهم. وهذا ما أكد علي ريتشارد نيد ليبو في كتابه لماذا تتحارب الأمم؟ إذ يرى أن غالبية الحروب تنشب بسبب البحث عن المكانة.

في الحالة العراقية نجد أن النظام السياسي الحالي يقوم على معايير مشوهة وغير صالحة للعمل أو يمكن التعويل عليها من أجل البناء المستقبلي

وما هو مهم في أية عملية صراعية هو أن يتم مأسستها لكي تكون قابلة للتوقع، وأيضًا يتم عبر ذلك خلق قواعد مقبولة من قبل جل المتصارعين يحتكمون إليها دون الحاجة إلى الصدامات الدامية، ومن أبرز تلك القواعد وجود نظام سياسي مقبول، لديه القدرة على استيعاب واحتواء مختلف الفئات والاختلافات، ولعل هذا ما يقع على عاتق السياسة ممارسته. 

اقرأ/ي أيضًا: نظرة على المتغيّرات الانتخابية.. وماذا بعد؟

من جهة أخرى كثر الحديث في العراق ولا سيما من قبل المعارضين للنظام السياسي الحالي، بشأن فكرة التغيير من داخل النظام نفسه، ويستندون في ذلك إلى أن لا وسيلة ناجعة غير هذه الوسيلة، أي عبر الاحتكام إلى الصندوق والديمقراطية، من أجل تحقيق التغيير الذي تنشده غالبية كبيرة من العراقيين.

هذا الأمر دفعنا لطرح بعض الأسئلة أبرزها:

  • ما معنى التغيير من داخل النظام؟
  • وهل هذه العبارة تصلح مع النظام العراقي الحالي؟
  • وهل يقدر دعاة هذا المبدأ في العراق على النجاح عبر تنبي هذا المسار؟

بدايةً، لعل من الضروري توفر معايير مقبولة من قبل الجميع في أي نظام سياسي قائم أبرزها حسب رأيي: العدالة، والأمانة، وحفظ مصالح الشعب والدولة، وأن الأولوية لمصلحتهما ويتمّ وضعهما فوق أي اعتبار آخر إن تم الاتفاق على المعايير والقواعد، عندها يمكن النقاش بشأن فكرة التغيير من داخل النظام نفسه، كون أن قواعده مقبولة من قبل الجميع، ومطبقة فعليًا، بالتالي يحوز على ثقة عالية من الشعب ونخبه. يبقى الاختلاف فقط في طبيعة السياسات المنفذة، فمثلًا الأمريكيين شعبًا ونخبًا وأحزابًا متفقين على نظامهم السياسي، باعتباره أداتهم السياسية الوحيدة التي تحفظ مصالحهم وأمنهم ويدير كل ذلك باقتدار، إلا أن النخب الأمريكية تختلف في طبيعة السياسات والاستراتيجيات التي يفترض اتباعها لغرض تحقيق مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، واختلافها هذا يتم التعبير عنه من خلال النظام نفسه، وعبر الآلية الديمقراطية عن طريق العمل على الوصول إلى سدة الرئاسة، أو تحقيق الأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ، ونجد ذلك واضحًا عند الحزبين الديمقراطي والجمهوري. إن هذا الإيمان بالتغيير من داخل النظام نفسه، لم يتحقق إلا لوجود مبادئ ومعايير متفق عليها، ولا يمكن القفز عليها من قبل أي طرف كان، ومن يحاول ذلك ستواجهه مؤسسات الدولة بكل اقتدار كما حدث مع ترامب.

في الحالة العراقية، نجد أن النظام السياسي الحالي يقوم على معايير مشوهة وغير صالحة للعمل أو يمكن التعويل عليها من أجل البناء المستقبلي؛ لأنها تقوم على المحاصصة والزبائنية والغنيمة والفساد السياسي. إن وجود معايير وقواعد فاسدة، لن يتم إصلاحها من خلال الآلية الديمقراطية، من منطلق التغيير من داخل النظام نفسه، لأن هذا النظام لن يسمح بذلك، وسيحارب من يحاول تبني هكذا خيارات يعدها رايديكالية، وأثبتت التجارب أن الداخل لهذا النظام سيتكيف معه "يصبح فاسدًا"، أو سيكون دوره فيه هامشيًا بلا أي تأثير.

لذلك، لا يمكن نشدان التغيير الحقيقي من دون تفكيك القواعد التي يقوم عليها النظام، ولا بد من التفريق بين المبادئ وبين الآليات، بين النظام والشخوص، فأزمتنا ليست أزمة شخوص بالدرجة الأولى وإنما أزمة نظام. ومن يتحدث عن التغيير من داخل النظام، هو في الغالب يقصد القيام بذلك عبر آليات معينة مثل الانتخابات، وما ينتج عن ذلك من وصول أشخاص جدد إليه يمتلكون القدرة على التغيير، وهذا حسب رأيي فهم غير دقيق كون أن الواقع لا يحتكم للانتخابات، وإنما لمتغيرات أخرى بينت بعضها آنفًا، وأيضًا من قال إن النظام لم يدخل إليه أشخاص جدد؟ فمنذ عام 2003 دخل العديد من الأشخاص إلى هذا النظام كوزارء أو نواب برلمان، أو أعضاء مجالس محافظات وأقضية ونواحي.. إلخ، هل استطاعوا تحقيق بعض التغيير المطلوب؟ الجواب بنسبة كبيرة كلا، بل قد نجد أنهم تكيفوا مع أسس النظام وباتوا يعملون من خلالها!

حجة تيار التغيير من داخل النظام في العراق، هي أن الديمقراطية عبارة عملية تراكمية، مستدلين بذلك بأمثلة غربية احتاجت فترة طويلة حتى تترسخ، وهي حجة صحيحة كون أن البناء السياسي يحتاج للوقت حتى تترسخ التجربة وتنضج الخبرة. إلا أن المشكلة لدينا في العراق ليست هنا بل في قواعد النظام وآلياته كما أشرت سابقًا لا تتناسب مع هذه الرؤية، فهو مشوه ومن ثم لا ينطبق مع جوهر الديمقراطية القائم على الليبرالية والحرية الاقتصادية، فضلًا عن أركانه لا يؤمنون بها إلا لكونها وسيلة ترسخ وجودهم ومصالحهم، وتضع بعض الماكياج لهم أمام الخارج، ورأينا كيف أن طرفًا مهمًا فيه هدد بنسفه لمجرد أن نتائج انتخابات عام 2021 لم تكن متناسبة مع تطلعاته، وعليه لا تصلح عملية المقارنة بين الأنموذج الغربي وبين أنموذجنا؛ لأن الأنموذج الغربي صحيح أنه احتاج لفترة طويلة لكي يترسخ، لكن من الضروري الرجوع إلى سياقاته لفهمه، فلو رجعنا إلى الثورة الفرنسية سنجد أنها ثبتت الأسس التي سيقوم عليها النظام الجديد أسقط الملكية، وما صار بعدها من أحداث وتقلبات وحروب شهدتها فرنسا لم يكن أساسه وجود نظام فاسد يريد الناس الدخول إليه حتى يتم تغيير نتائجه، وإنما كان هنالك أولًا صراع بين قوى النظام القديم والنظام الجديد، وطرق فهم مختلفة لما يفترض أن يكون عليه التغيير، أي أن الأسس لم تكن فاسدة وإنما كان هنالك صراع على من ستكون له الغلبة أي بمعنى أي أنموذج سيتغلب ليفرض نفسه في السلطة، ومن ثم يقوم بالعمل بناءً على فهمه وبمنطلقات أنموذجه.

ختامًا أقول إن مسار التغيير المفترض قد يكون عبر تبني خيار إصلاحي أشبه بالثوري ومن خارج النظام يضغط باتجاهه، ويعمل على تنظيم نفسه قبل كل شيء، لكي تكون خطواته صحيحة ومثمرة ومنظمة غير عبثية، هذا الخيار قد يؤدي إلى تغيير جوهر النظام مع الإبقاء على جوهر الديمقراطية، وأيضًا لا بد له من السعي إلى أن تكون لديه سلطة وليس في السلطة، فهنالك فرق كبير بين الاثنين، فمعنى أن تكون لديك سلطة أي أنك تتمتع بالقوة والنفوذ والمكانة اللازمة ما يؤهلك لفرض رؤيتك على الآخرين، أما أن تكون في السلطة لمجرد أنك صاحب منصب من دون أي دور مؤثر ولا قوة معتبرة، وهذا ما يراد أن تكون عليه عملية التغيير التجميلية في النظام الحالي، ذلك عبر زج عدد من الأفراد وبعض التيارات ضمنه على أن يكونوا بلا أي تأثير، وفي ذات الوقت يؤدي هذا الأمر إلى تسكين الناس، ويتم إرسال رسائل مفادها أن النظام يتغير، إلا أن الحقيقة هو يعمل على احتواء الآخرين وليس تغيير نفسه، وهذا الاحتواء يتم بطرق عديدة أبرزها المال والمناصب.

مسار التغيير المفترض قد يكون عبر تبني خيار إصلاحي أشبه بالثوري ومن خارج النظام يضغط باتجاه

بالتالي، يفترض بتيار التغيير من خارج النظام كسب تيار المقاطعة إلى جانبه، فضلًا عن ضرورة العمل على كسب الفئة المحبطة وغير المكترثة بسبب يأسها من الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق بعد 2003، وهي تمثل بشكل تقريبي 70٪ من الشعب العراقي، وبهذه الاستراتيجية ستكون لديه السلطة اللازمة التي تمكنه من لعب أدوار ذات تأثير فعلي على الساحة العراقية.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تحديات نواب الاحتجاج: النموذج الأول والمهام الجسام

المقاطعون ومشاركة "تشرين" بالانتخابات