05-مايو-2023
الصدريون في العراق

عن الصدريين في العراق (Getty)

ثمة نمط خاص من التدين ينشط عند عموم الجماعات الدينية - السياسية، وهو ما أطلق عليه "التدين العائلي". يجمع بين السلوك القبلي والتعصب الديني، فينتج لنا دائرة مغلقة من العلاقات لا تجد مكانًا للنقد بين أوساطها بوصفها جماعات سياسية ينبغي عليها تعميق الثقافة النقدية لتضمن بقائها السياسي على الأقل. إنها تغض الطرف عن كل الملاحظات النقدية الجادة لخطابها الديني والسياسي، طالما يأتي هذا النقد من جهة غير مأمونة، بالنسبة لها، وتثير الريبة حتى لو كان النقد صحيحاً ومُلاحظًا من قبل الجماعات نفسها.

الصيغة الهرمية للتيار الصدري تقف حائلًا بين ذلك الإصلاح الذي يتبنّاه الصدر وبين التحقق على أرض الواقع

حين تستشعر هذه الجماعات ثمة خطاب نقدي موجه لها، ينبغي ألا يشارك أفرادها بالحوار لكي لا يعطوا شرعية لكل محاولة نقدية تحاول النيل منها. ثم ندخل في معارك حزبية تغلب عليها النبرة الكفاحية على حساب تقدم المسيرة السياسية وبناء مؤسسات الدولة، وهذا ما يحدث في العراق على وجه الخصوص. القضية ليست ما إذا كان هذا النقد مصيبًا أم لا، القضية أن هذا النقد يهدد النرجسية الجماعية لهذه العائلة المغلقة! فهي تخرج عن إطار الدين وتدخل في إطار السياسة (أو التقاليد العائلية). والنتيجة أن الجماعات الدينية تخسر الاثنين في نهاية المطاف: الدين والسياسة.

إنها محكوم عليها سلفًا بهذه الثنائية المؤلمة: التوفيق بين السياسة والدين دون أن تقبض على أي منهما إلا من خلال التفريط بأحدهما، وكل ما في الأمر يمكن لهذه الجماعات أن توهم نفسها بأن ما تفعله صوابًا وأنه نصر للدين، لكن إذا ما حاولت أن ترمم بعض الصدوع، فينبغي أن يكون هذا الترميم فائق السرية وبعيدًا عن الخصوم، لأنها حرب وجود في العمق وليس علاقة بالله ولا مكاشفة سياسية. لماذا نقول "علاقة بالله" ونحن نقصد الشق السياسي كما سنبيّن بعد قليل؟ على الأقل هذا ما تعتقده الجماعة الدينية، وهي تخوض حراكها السياسي. أي أنها تستنكف عنونة نفسها كجماعة سياسية وبنفس الوقت يبقى الرصيد الديني هو الوثيقة المأمونة والأكثر ثقة بين عموم الناخبين "المؤمنين".

المهم في الأمر، كلما اتجهت الجماعة صوب السرانية والانغلاق تكون قد حكمت على نفسها بالتخلّف. ليس ذلك النمط من التخلّف الذي يستبشر به ويؤيده صانعو الجماعات لضمان ديمومة القادة (وأنا أقصد بالضبط الجماعات الحاكمة الآن)، وإنما ذلك التخلف الذي يقضي على تاريخ الجماعة بوصفها حركة سياسية تحاول الوصول للسلطة كحق مشروع من خلال الآليات الديمقراطية. فستنتهي هذه الجماعة أما من خلال خصومها، أو من خلال تخبطها الواضح.

ثمة خطان متجاوران يمشيان جنبًا إلى جنب: الجماعة السياسية والنقد المتواصل؛ كلاهما يكمل الآخر، ما أن ينتفي أحدهما تسقط المعادلة برمّتها، وتتحول الجماعة إلى حركة شكلية طقوسية خرافية لا علاقة لها بالسياسة كهدف نبيل للصالح العالم، والناخبون ليس لهم علاقة بحقوقهم بقدر ما هم مؤمنون مُقَنَّعون بقناع ناخبين سياسين. الجماعة الدينية تختلف عن الجماعة السياسية: الأولى عمرها طويل لأن تستمد وجودها من إيمانها باللا متناهي، والثانية مشروع سياسي غايته الوصول للسلطة، حتى إن كان الهدف يقترب من الشعار الديني. فبالنتيجة هي قبلت بآليات الديمقراطية سواء كرهًا كان ذلك القبول أم طوعًا. فالمقصود هنا هو الشق الثاني من الجماعة. أي الجماعة بوصفها حزب سياسي يروم المشاركة بالسلطة من أجل أهداف نبيلة.

في نهاية المطاف نتكلم هنا عن مشكلٍ سياسي لطالما رافق الجماعات الدينية-السياسية، وهو التقوقع والانغلاق وكراهية النقد والاحتماء بالدين لشرعنة وجودها السياسي حتى لو كانت جماعات فاسدة ومتخلّفة سياسيًا. لنأخذ مثالاً راهنًا على بعض الجماعات الدينية-السياسية، وهو التيار الصدري، بوصفه تيارًا سياسيًا، أي بشقّه الثاني، فبين الحين والآخر يستدرك السيد مقتدى الصدر ما فات هذه الجماعات من تطورات نوعية كان ينبغي لها أن تتحلّى بها طيلة وجودها كجماعة. ولذلك بين الحين والآخر يعترف ببعض الأخطاء البنيوية التي تصيب التيار الصدري، ومنها وجود الفاسدين، وشيوع ظاهرة الغلو عند بعض الفئات الصدرية. الصدر يصرّح بما مضمونه في أحدى تغريداته: "كيف لي أن أكون مصلحًا وأنا لا أصلح التيار الصدري؟"، بيد أن الصيغة الهرمية للتيار الصدري تقف حائلًا بين ذلك الإصلاح الذي يتبنّاه السيد مقتدى الصدر وبين التحقق على أرض الواقع.

الصدريون لا يستمعون سوى لرمزهم الروحي، وربما لا يعيرون أهمية لما تحت الهرم إلا بإشارة من ذات الرمز. من ثم يغدو "الخط الأول" و"النخبة المثقفة" و"المستشارون" لا يمكنهم المساهمة الفعلية في عملية الإصلاح التي ينادي بها التيار الصدري، فينكفأ التيار على نفسه ويتحول إلى روابط عائلية مقدسة، فما يسمّى بـ "التجميد" لا يقدم خطوة جادّة وحقيقية، مالم يُتَرجَم على شكل دراسات وندوات تخرج بتوصيات عملية، وفسح المجال لذوي الشأن للإدلاء بآرائهم، بعيدًا عن التخوين ونظرية المؤامرة، التي عادة ما تتمسك بها الجماعات الدينية التي تشعر دائمًا أن النقد يهدد وجودها.

سيغدو التيار الصدري عبارة عن عائلة غامضة وسرانية لا يمكنها أن تتقدم سياسيًا إلا بمزيد من الانفتاح وأوله المكاشفة والوضوح

ويبدو أن السيد الصدر يعلّم جيدًا بأن عموم العراقيين ينتمون لثقافة تمت تنشئتها على التهيّب من النقد، فيضطر للتصريح الرسمي على تقبّل النقد (لقاءه مع الصحفي الراحل جمعة الحلفي). إننا في ثقافة تتهيّب النقد إلّا إذا تمت الموافقة عليه من قبل المنقود نفسه! أو إلا إذا سُمِح به من قبل قادة المجتمع، وبخلافه سيظل هذا "البعبع" في عداد المحرّم. على أي حال، ومثلما قلنا،  حتى لو يؤكد السيد الصدر على تقبّل النقد، فالقاعدة لا تطيع بالضرورة رأس الهرم في كل شيء، مثلما يفعل الكثير من المقلدين على مخالفة فتاوى مراجعهم. ومن جهة ثانية لا توجد أرضية مهيأة للثقافة النقدية ويبقى التيار الصدري في جوهره تيار إيماني محض، لا يمكنه الصمود في العملية السياسية مالم يهيئ الأرضية اللازمة لتأهيل الكوادر والنخب الثقافية والسياسية لتخطّي ظاهرة العاطفة المفرطة، وبخلاف ذلك سيغدو هذا التيار عبارة عن عائلة غامضة وسرانية لا يمكنها أن تتقدم سياسيًا إلا بمزيد من الانفتاح وأوله المكاشفة والوضوح، وهذه أول خطوة لكل عملية إصلاح ممكنة.