13-أكتوبر-2019

الكثير من الشباب الذين كانوا ضحايا في التظاهرات لم يتجاوزا الـ18 عامًا (Getty)

صور أصدقاء العطواني تعلو شواخص قبورهم الآن، وجوه طفولية، عيون مكحولة، وشعر ملون، وابتسامة عريضة، ثياب ملونة، مزركشة، الصورة مشعة بالحيوية والحياة، والحرارة.. الآن في المقابر بعد أن تظاهروا يطالبون بالحد الأدنى للحياة التي لم يعيشوها أبدًا.

اليوم، وبعد التظاهرات التي بدأت في تشرين الأول/أكتوبر صور أصدقاء العطواني تعلو شخوص قبورهم بوجوه طفولية وشعر ملوّن.. كانوا يطالبون بالحد الأدنى للحياة

جمَدَت أحد الصورة لحظة لعرّيس (عطواني ) يرفع يده يحيي أصدقاءه، مفتخرًا بموقفهم معه، وتعاضدهم في عرسه. يبرز في الصورة خنصر مخضب بالحناء، وخاتم ذهبي (العطوانيون يحبون الألوان والزينة، يرتدون خواتم زفاف ذهبية!) خلف العريس العطواني الضاحك في الصورة، تظهر امرأة مغلفة بالسواد، متحزمة بعباءتها، رافعة يدها إلى الأعلى، تضرب الأرض بأقدامها على عادة الجنوبيين عندما يطلقون أهازيجهم ويرقصون رقصة مشبعة بالحزن والمكابرة والتحدي!

اقرأ/ي أيضًا: وادي السلام.. العيد "عند الأحباب" أحلى!

يبرز في الصورة دبوس ذهبي تتدلى منه خزامة مرصعة بحجر الفيروزي السمائي، تشكه آلام في (شيلتها) السوداء، وفي انفراجة ابتسامتها نلمح سنًا ذهبيًا لماعًا (ربما الأم عطوانية أيضًا). العطوانيون الملونون، حركون، مسرعون، يسحبون خلفهم طيفًا من الألوان، أحمر.. أخضر.. أصفر.. ذهبي: ألوان، ألوان، ألوان. 

صخب لوني يحيط هؤلاء العطوانيون. في حلكة البلد وترابيته يشعون هم مثل الطواوييس. زاهين  مثل أقواس قزح!

 وبينما نحن وسط اكتئابنا المزمن، وجدارات الأفراح الأسمنتية تحيط بنا؛ تعلو ضحكاتهم، قهقهاتهم المستمرة، تخترق السديم، ضحكات ملونة مثل وجوههم، متمردة مثل قصات شعرهم، غير متناسقة مثل موديلات ملابسهم. تعلو، وتجتاح الجدارات، وترتد نحونا، نحن أعداء الابتسامة أمناء الكآبة وحرّاس الخيبة!

ولذلك لم يحتملهم أحد. العطوانيون الضاحكون أبعدوهم من أنظارنا أنهم يضحكون، يرتدون الزينة، ثيابهم ملونة، قصات شعرهم لا تشبه قصات شعرنا، يا إلهي، لا نطيق رؤيتهم، أبعدوهم، أبعدوا العطوانيين، أو حولهم لمادة للتندر والسخرية.

قبال گراج النجف الشمالي، تقف ثلاث نساء، ثلاث علب سوداء، تبادرهن المرأة الأكبر:

- للمُگبرة انوب لعلي.

كان صوتها مبحوحًا، هناك تشققات في البلعوم ناتجة بسبب الصراخ المستمر. ترد التي تقف على يمينها:

نروح لعلي نصلي ونروح للمُگبرة.

المرأة الثالثة فتاة صغيرة، لفرط تلفعها بالسواد، لفرط حزنها، بدت بعمر الأخيريتين، لم تنبت بشفة. عادة المرأة الكبيرة:

ما أريد أصلّي، أنا رايحة للمُگبرة.

تمد يدها، تومأ إلى سيارات التاكسي، توقف إحداهن، وتقذف نفسها بالمقاعد الخلفية، وتبعتها الأخيرتين، انطلقت السيارة إلى المقبرة. يمد السائق يده، يطفئ الراديو الذي كان يبث خطابًا مسجلًا لرئيس الوزراء، بينما كانت المرأة الكبيرة (تنعى) تندب ابنها (تلوع):

- يالعريس.. يالعريس.. يالعريس..

الفتاة الصغيرة تتقطع بصمت، تذوب بثوبها الأسود، تأن مثل حمام الفاخت، وتشهق مثل طفل أبعد عن ثدي أمه "يالعريس  جبت مريتك واجيتك".

الفتاة الصغيرة خطيبة العريس الذي تندبه أمه، كانا في علاقة حب دامت سنوات، منذ الطفولة والمراهقة حتى الشباب، كان (العريس) يبحث عن عمل، وبعد أن اشتغل عاملًا في بسطة لبيع الشاي  في السوق، تقدم لبنت خالته، خطبها، البسها خاتمًا ذهبيًا والبسته هي خاتمًا ذهبيًا أيضًا.

خاتمها بيدها، ترفض خلعه، تلثمه كل لحظة، تغطي وجهها وتبكي، وتعود أمه لندبها المتواصل:

- يمه.. يمه.. 

تقذف الأم نفسها على قبر ابنها، تعانق الرخام وتنام فوقه بالتصاق، تحيطه بذراعيها، كأم تسور ابنها، تعانقه بحرارة وكأنه هو!

تجلس الفتاة باستحياء، تمد يدها وتمسك حافة الرخام، تمسح التراب عنه، تتمتم بكلام غير مفهوم، من المؤكد أنها لا تقرأ القران، أو أيًا من الأدعية، هناك كلام آخر. تصرخ الأم، ونلمح من انفراجة صرختها سنًا ذهبيًا لماعًا، أزاحت جسدها المثقل من على الرخام، واخرجت ثيابًا من كيس أسود كانت تحمله بيدها، بنطال أخضر وبراق، وجاكيت بذات اللون والموديل، أفردتهما، ونشرتهما على الرخام وكأنها تقيسهما عليه.

في الصورة التي تعلو الشاخص، نرى شابًا مبتسمًا رافعًا يده، يرتدي بدلة خضراء براقة، وخلفه امرأة (تدبچ) ضاحكة والتماعة سنها الذهبي تظهر في الصورة..

أحدثت السلطة العراقية مجزرة بالمتظاهرين العراقيين من الشباب الصغار في بغداد ومحافظات الجنوب والوسط 

في اليوم الأول من شهر تشرين الأول/أكتوبر 2019، أحدثت السلطة العراقية مجزرة بالشباب المتظاهرين في بغداد ومحافظات الجنوب والوسط، مجاميع من الشباب العاطلين عن العمل، خريجون، كسبة، حمالين وشغيلة بناء، وأطياف من عمال بأجور زهيدة، شباب يقاتلون من أجل اللقمة الضائعة، جزرتهم السلطة وأغرقتهم بدماءهم دون أي مبرر، ولاحقت الجرحى المختنقين من الغاز السام في المستشفيات!

الشاب العطواني (محور القصة) نموذج من شباب أثكلت بهم أمهاتهم وحبيباتهم وزوجاتهم، لا لشيء، إلا لأنهم طالبوا بحقوقهم المشروعة!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قصة من "ثلاجة الصدر".. رصاص السلطة في رأس "المقاتل المحتج"!

عداد الموت.. حصيلة انتهاكات السلطات العراقية لحقوق الإنسان خلال انتفاضة تشرين