09-سبتمبر-2021

(ألترا عراق)

ألترا عراق ـ فريق التحرير

مشغله يتمحور حول القلم، فكان رسّامًا وشاعرًا وكاتبًا قصصيًا، ثم صحفيًا وروائيًا، وكاتب أعمال درامية، في الصحافة كان ضمن العديد من الصحف والمجلات والمؤسسات الصحفية المحلية والعالمية، ثم انفرد في عالم الكتابة، كتب الشعر والرواية والقصص القصيرة، بالإضافة إلى إنتاج وكتابة الأفلام الوثائقية، في الشعر كتب: "الوثن الغازي عام 1997، ونجاة زائدة عام 1999، عيد الأغنيات السيئة عام 2001، و صورتي وأنا أحلم عام  2002"، وفي الرواية كتب: "البلد الجميل 2004، إنه يحلم أو يلعب أو يموت 2008، فرانكشتاين في بغداد 2013، والتي حصلت على جائزة البوكر العربية وتمت ترجمتها للغات عديدة، وباب الطباشير 2017، الوجه العاري داخل الحلم.

أحمد سعداوي: الفضاء الثقافي العراقي ما بعد 2003 هو فضاء سردي بامتياز

الكاتب والروائي أحمد سعداوي، خلال حوار خاص مع موقع "ألترا عراق"، كشف عن اسم روايته الجديدة، وأفصح عن فقدانه لجوهر بغداد، والجوهر بالنسبة له هو افتقاده لأهله وأصدقائه، والشعور بالإيقاع الحياتي العام في بغداد، وهذه أشياء لا تعوّض، بحسب سعداوي الذي يرى أن السرد وازدهاره في العراق يجعل المشهد الثقافي العراقي أكثر حيوية، معللًا ذلك بأنه يقدم اشتباكاً مع التاريخ والعلوم الاجتماعية، ويجبر المشتغل في حقل الرواية والقصّة على تطوير وجهات نظر اجتماعية وأنثروبولوجية ونفسية من قضايا المجتمع والتاريخ والسياسة، وهذه كلّها تثقّف القرّاء.

                                                  قناتنا على تيليغرام.. تغطيات مُحايدة بأقلام حرّة

وفي ملفي الثقافة والسياسة، يكشف سعداوي عن أكثر تعريفين للمثقف يرددهما، فيما يستعرض دور المثقف ومسؤولياته والأسباب التي جعلت بعضهم لا يتفاعل مع الاحتجاجات، كما في هذا الحوار: 

  • أودّ أن أبدأ معك من النهاية؛ كيف تجد العيش خارج البلاد، هل أثّر الاستقرار هناك على مستوى الكتابة لديك؟

 العيش خارج البلاد مثل العيش داخلها، يتعلق في نهاية المطاف بتأمين حاجاتك اليومية، والقدرة على التكيّف والتفاعل، إن لم تتحقق هذه المطالب فأنت غريب أو "مغترب"، منفي، حتى وإن كنت بين أهلك وأصحابك.

وهاجس الاغتراب كان يتعاظم عندي خلال السنوات الماضية، خصوصًا وأنني كنت كثير الأسفار، أما في بغداد فقليل الاختلاط. أقضي أغلب وقتي في بيتي منشغلًا بالكتابة أو القراءة. أنظّم وقتي على ساعات القطع الكهربائي، فأكتب حين تأتي الكهرباء، وأقفل حاسوبي حين تنقطع. وبالسؤال عن تأثير العيش خارج البلاد على الكتابة، وربطًا بما سبق؛ أنا في الحقيقة كنت أنجز المسوّدات النهائية من كتبي خارج بغداد.

روايتي "فرانكشتاين في بغداد" شرعت في المسوّدة النهائية لها في فندق ميهراكو في السليمانية، بسبب حاجتي للتركيز العالي الذي لا يتوفّر لي في أجواء بغداد وانقطاعات الكهرباء المستمرة.

كذلك الأمر مع كتابي "الوجه العاري داخل الحلم" وروايتي "مذكرات دي" حيث كتبت مسوّداتها النهائية في أسطنبول.

كتبت روايتي الجديدة "الشهر الثالث عشر" هنا، ولدي مشاريع أخرى قيد الإنجاز، وكل ذلك لأنني قادر على التركيز، وأشعر بالأمان لنفسي وعائلتي، وفقدان هذه الأشياء خلال السنوات الماضية، وتحديداً بعد انتفاضة تشرين، كانت تجعل حياتي تحت ضغط نفسي كبير.

من جانب آخر؛ أنا أفتقد أهلي وأصدقائي، والشعور بالايقاع الحياتي العام في بغداد، والذي هو من مصادري في الكتابة. لقد ألهمني، خلال محطات عديدة في مشروعي الكتابي، سائقو تكسيات وعمّال مقاهي، ثرثرات عابرة مع أناس غرباء. وأيضاً الأحاديث والسجالات العميقة مع الأصدقاء الأذكياء.

هذه أشياء لا تعوّض، وهي بمعنى من المعاني، تمثّل عندي جوهر المدينة، جوهر بغداد التي أعرفها.

  • تمثّل المقاهي الثقافية البنية التحتية للثقافة "بحسب تعبيرك"، ما هو تأثير بعدك عنها حاليًا.. ومن جانب آخر، هل تساهم في تسويق المهتمين بالشأن الثقافي بوصفهم نخبًا بعيدًا عن جودة محتوى ما ينتجون؟

المقاهي والأماكن الثقافية هي الفضاء الاجتماعي/الثقافي الأساسي للحياة الثقافية، ومن دونها يفقد المثقف، الكاتب والمبدع، جانبًا مهمًا من الشعور بالزمن الاجتماعي العام، ويفقد إمكانية أن يرى نفسه، وبالتالي يرى مساره المستقبلي.

هذه أشياء أساسية للمثقف والكاتب في مراحل التكوين، وتضعف أهميتها مع التقدم بالتجربة والخبرة، وفي وقتنا الحالي أخذت فضاءات التواصل الاجتماعي جزءًا من وظائف المقاهي الثقافية التقليدية.

اقرأ/ي أيضًا: الروائي أحمد سعداوي ناشرًا

أنا قلت في الجواب السابق أنني أفتقد هذه الأجواء الثقافية الاجتماعية، لكنني بالعموم لم أكن أواظب على الحضور فيها، وقد تمرّ أسابيع من دون أن أحضر إلى مقهى ثقافي ما.

المقهى الثقافي يضمّ أنواعًا وأشكالًا مختلفة من الشخصيات، فهذا حاله دائمًا، ولا يمكن للمقهى أن "ينتج" مبدعًا أو مثقفًا، حتى لو تحوّل إلى نجم اجتماعي، ولدينا في التاريخ الثقافي العراقي العديد من الشخصيات المفوّهة التي تخلق حضورًا اجتماعيًا في الأوساط الثقافية من دون أن يكون لديها منجز إبداعي، وهذه الشخصيات تترك فحسب ذكريات في رؤوس الآخرين، أما أثرها فيتلاشى لاحقًا.

  • كيف ترى دور السرد في مشهد حياتنا المعاصرة - خصوصًا وأننا نرى أن الشعر لا زال يحكم بقبضته على المشهد والمنجز الثقافي؟

الفضاء الثقافي العراقي ما بعد 2003 هو فضاء سردي بامتياز. فنشاط الصحافة التي استثمرت الأجواء الجديدة هو فضاء سردي، وبالتدريج صار تغيّر بالمزاج الثقافي العام لصالح السرد، ثم شهدنا صدور العديد من الروايات، وبروز شخصية الروائي، كنجم ثقافي، لأول مرّة ربما في الثقافة العراقية، مزيحًا الشاعر من هذا الموقع الأثير.

لدينا اليوم أكثر من 200 رواية عراقية جديدة، وشباب كثيرون في هذه اللحظة يجرّبون إنجاز أعمالهم الروائية الأولى.

هذا الوضع ـ كما أقول دائمًا ـ ليس مضادًا للشعر، بل على العكس، هو يعتق الشعر من رهانات وضع جعله في عقود سابقة يجذب الكثير من المواهب المتوسطة، ويثقل المشهد الشعري بنتاجات متوسطة الجودة.

من جانب آخر؛ يتوهّم من يدخل فضاءات السرد، أنه قادر على الامساك بناصية الابداع، من دون فهم عميق للشعر وموقعه من صناعة الخيال الأدبي. الشعر هو التجريد اللغوي الأعلى، وهناك في جوهر كلّ الفنون، ومنها الفنون السردية، موقف شعري من العالم.

السرد عالميًا هو العمود الفقري للثقافة، وازدهاره في العراق يجعل المشهد الثقافي العراقي أكثر حيوية، لأن السرد يقدم اشتباكًا مع التاريخ والعلوم الاجتماعية، ويجبر المشتغل في حقل الرواية والقصّة على تطوير وجهات نظر اجتماعية وأنثروبولوجية ونفسية من قضايا المجتمع والتاريخ والسياسة، وهذه كلّها تثقّف القرّاء.

  • مما يشاع عن غابريل غارسيا ماركيز تأثره المفرط بحكايات جدتيه، غرستا فيه الغرائبية منذ وقت مبكر.  كيف كانت بداية سعداوي مع السرد والقصة؟

أنا كتبت أول قصّة في حياتي حين كنت بعمر الثامنة، ومن يومها ارتبطت بعلاقة وثيقة مع القلم. وتمحورت حياتي كلّها حول هذه الأداة، فكنت رسّامًا وشاعرًا وكاتبًا قصصيًا، ثم صحفيًا وروائيًا، وكاتب أعمال درامية، وكلها مشاغل تتمحور حول القلم.

كنت أتفاعل مع الحكايات التي أسمعها من الأهل والأقارب والناس، خزين الأمثال والحكم والحكايات الشعبية، وكذلك التجربة الهائلة التي وفّرتها لي مجلات الأطفال "مجلتي" و"المزمار" والمطبوعات العظيمة لدار ثقافة الأطفال العراقية. والتي كانت تمدّني وأبناء جيلي بخلاصات مركّزة من ثقافات متنوّعة بنت قاعدتنا الثقافية وأثرت خيالنا بشكل كبير.

أسمح لي الآن العودة إلى الشأن العراقي في ملفي الثقافة والسياسة.

  • ما هو تعريف المثقّف بالنسبة لك؟

هناك في الحقيقة تعريفات عديدة. أنا أردّد أحيانًا تعريف جيل دولوز بأن المثقف هو "صانع المفاهيم"، أو تعريف آخر بأنه "صاحب الخطاب"، فالذي يستطيع بناء خطاب متماسك لغويًا ويحوي رؤية متفرّدة واضحة من الأشياء هو مثقف بشكل من الأشكال.

هناك انقسام ما بين تعريف تقني يجعل المثقف هو المتخصّص بحقل من حقول المعرفة، لا يخرج من مختبره لينخرط بالضرورة في السجالات العامة، وتعريف اجتماعي يشترط بالمثقف أن يكون ذا دور في القضايا العامة، ويستعمل خطابه في فحص هذه القضايا والمشاركة في السجال حولها.

في الفهم والاستعال الشعبي العراقي فإن المثقف يتماهى مع "المتعلّم"، وهذا يشمل في الواقع طائفة واسعة من الناس، من ذوي الاختصاصات العلمية والأكاديمية والأطباء وممارسي مهن لها علاقة بالكتب مثل التعليم والصحافة، بل وحتى الفنون المتنوّعة.

لكن ذلك المثقف المشغول بالحفر العميق وقراءة الوقائع بإطار زمني واسع، والذي ينجز مشاريع تستغرق وقتًا طويلًا، وغير عابئ بالنجومية، أو كسب ونيل رضا جمهور معين، المثقف من هذا النوع نادرٌ لدينا، مقارنة ببلدان عربية صغيرة مثلًا كلبنان، أو حتى بلد ليس له دولة حتى الآن مثل فلسطين.

  • هناك شريحة تقف بمنطقة رمادية ما بين السلطة والناس، ومنهم "النخب الثقافية"، حيث لم  يتخذوا أي موقف إزاء الوضع العام، ويعلل بعضهم ذلك أن الشاعر والروائي اشتغالاته أدبية ويجب أن يبتعد عن السياسة والهموم العامة، كيف تنظر لهذه المنطقة؟

ارتباطًا بالجواب السابق؛ يحتاج المثقف إلى بنية مؤسساتية للعمل من خلالها. لا يمكن لباحث أن يعمل على مشروع طويل الأمد وهو جائع أو مشغول بتأمين لقمة العيش. لا يمكن للمثقف أن يعمل من دون حرية محمية بالقوانين، وقدرة على إعلان نتائج بحوثه العلمية، من دون مداراة أو مجاملة لمن يمسك بالسلطة، أو الوعي الشعبي العام.

لا يمكن للمثقف الباحث أن يعمل ويبرز مع مؤسسات أكاديمية مهلهلة تمتلئ بالجهلة والأميين من أصحاب الشهادات العليا، وتعجّ بالمنافقين للأحزاب ورجالات السلطة.

المثقف بصفته أعلاه بالإضافة للشاعر والروائي المذكورين بالسؤال إن اختار عدم الانشغال بالقضايا العامة فهذا حقّه. ليس الكل مستعدًا لممارسة نشاط مدني أو سياسي عام. ولا يمكن محاسبة أحد أخلاقيًا لأنه يؤثر السلامة ويخاف على مصالحه. كما أن المنشغلين بالقضايا العامة من ناشطين ومثقفين لن تنفعهم المواقف المجاملة ممن يخشى تقريعهم أو نقدهم، وهو في قرارة نفسه غير مؤمن بهذا المسار.

لكن هذا كلّه يختلف حين يتبنّى المثقف والشاعر والروائي "وغير ذلك من تسميات" مواقف علنية لا أخلاقية، فهو هنا يضع نفسه أمام طائلة النقد.

  • الكثير من شباب الاحتجاجات الفاعلين في الوسط الثقافي، هاجموا المثقف العراقي ووصفوه بـ"مثقف السلطة"، ما سبب ذلك برأيك، وكيف تولدت هذه الهوّة العميقة بين المثقف وجمهور الثقافة الشاب؟

هناك تعميم بالسؤال، فالكثير من المثقفين أصلًا أو "الناشطين المثقفين" كانوا في قلب الرحى من الحراك الاحتجاجي على مدى السنوات العشر الماضية، ولكن ربما كان السؤال يقصد أولئك المشهورين، وهؤلاء قد يعاني البعض من حراجة وضعه الوظيفي، في دولة ريعية جعلت مؤسسات الدولة هي مصدر العمل الأساسي وربما الوحيد.

لكن هذا ـ كما قلت في الجواب السابق ـ لا يشمل أولئك الذين يتبنون مواقف متضامنة مع الأحزاب والتيارات السياسية الحاكمة. فهؤلاء هم من وضعوا أنفسهم أمام مرمى الاتهام والنقد.

  • برايك هل تمكّن الأديب العراقي من لعب دور المثقف خلال الحركة الاحتجاجية؟

بالتأكيد. هناك الكثير من الأدباء كانوا في ساحات الاحتجاج، وكرّسوا حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل لمساندة الحراك الاحتجاجي، ودعم الحملات التي يطلقها النشطاء الشباب من أجل الكشف عن مصير المختطفين، أو المطالبة بمحاسبة المجرمين، وما إلى ذلك.

لكن هذه أدوار يقوم بها الأديب بصفته ناشطًا، أما صناعة الأدب المتصل بالحراك الاحتجاجي، فهذه مسألة معقّدة، وأنا شخصيًا لا أطالب الأديب بها، ولا أشترط عليه شيئًا سوى أن يكون حرًّا بأقصى ما يستطيع خلال الكتابة.

  • أصبح للمدون دورًا هامًا في صناعة الرأي العام، وكما تعرف ينحصر التدوين في منطقة مفتوحة بين الصحافة السريعة المعاصرة ومقال الرأي الشعبوي.. ما رأيك في دور المدوّن العراقي؟

التدوين مرتبط بمواقع التواصل الاجتماعي، وهذه المواقع ليست أكاديميات، والمستخدمين الأساسيين فيها هم عامة الناس، وبالتالي فإن المزاج الشعبوي هو العصب الأساسي لهذه المواقع. وإن أردت أن تكون مدونًا مشهورًا فعليك العمل ضمن المزاج الشعبوي. ولا يوجد للأسف خيار آخر.

إن كان المدوّن ينحو إلى قضايا الرأي والمعلومة الدقيقة ووجهة النظر المدقّقة، فإنه سينال مساحة الاهتمام التي يحددها في النهاية مدى اقترابه أو ابتعاده عن المزاج الشعبوي، وهناك من يحاول المزج بين الاثنين.

في كلّ الأحوال توفّر مواقع التواصل الاجتماعي سهولة التواصل بين المدوّن "شعبويًا كان أم نخبويًا" وجمهوره العابر للحواجز الجغرافية. فحتى صاحب الخطاب الخاص سيحصل على جمهور أوسع من جمهور الصحافة التقليدية السابقة ووسائل التواصل القديمة.

  • اليوم خطاب الشارع العراقي المحتج، خطاب يمزج العاطفة بالسياسة بالتعقل نظرًا لتعقيد المشهد السياسي الداخلي للعراق، هل تعتقد أن هذا الخطاب هو نقلة بالخطاب الثوري المعتاد، والذي بني في التجارب السابقة لباقي الأمم على المضمون العاطفي والأيديولوجي فقط؟

الثورة هي عاطفة وانفعال، وهي متناغمة مع "العمر الرومانسي" حسب تعبير ميلان كونديرا، والذي هو عمر العشرينيات. يميل الشباب إلى المغامرة والمجازفة، أما الكبار فيفكرون بالحسابات الواقعية غالبًا، وفي كليهما "المغامرة والحسابات الواقعية" يكمن جانب من الصدق والفاعلية.

بالنسبة لبلد شاب مثل العراق، شريحة الصغار بالعمر هم الأكبر من بين شرائح المجتمع، فإن المزاج الشبابي طاغي ومهيمن، ولكنه منقسم ما بين التبعية العمياء والولاء للرموز السياسية، والفئة المضادة المنعتقة والمتحرّرة عقليًا، والتي يتركّز فيها مفهوم الشباب أكثر من غيرها.

أنا من المؤيدين للوصف الذي يقدم حراك الشباب في تشرين بأنه "ثورة"، وهي أبلغ وأصدق ثورة، وربما الأكثر أصالة في التاريخ العراقي الحديث.

ولكن الثورة، أي ثورة كانت، تجرف القديم لتفتح الطريق أمام الجديد. الثورة كحدث تنتهي، لكن روحها تستمر في دفع ماكنة التغيير وتعبيد الطريق للجديد. ومن مزايا الانفعال والعاطفة في الثورة أنها تجذب أفئدة الشباب، الذين كانوا معزولين وخاضعين للأعراف الحياتية الخاصّة قبلها، إلى القضايا العامة، وتجعلهم جزءًا من التفكير الجماعي، وبالتالي تحفّز عندهم الفضول، وتفتح لهم أبوابًا جديدة لتطوير ذواتهم إنسانيًا ومعرفيًا وحتى سياسيًا.

  • يعوّل فريق واسع على دور المجتمع الدولي في المساعدة بوضع حل لأزمة البلاد، فريق آخر يعتقد أن المجتمع الدولي داعم ومساند للنظام لأنه يوفر له مصالحه في العراق، ما رأيك أنت؟

 المجتمع الدولي غير قادر اليوم على الانخراط بعمق في الشأن العراقي، كما كان في السنوات الأولى ما بعد 2003. كما أنه يشعر بأن القوى السياسية الحالية كوّنت نفسها عبر مسار طويل وصارت متجذرة في المجتمع ومؤسسات الدولة، لذا "من الواقعي" العمل معها لا ضدها.

أيضًا هذا المجتمع الدولي تعرّف على الحراك الاحتجاجي، وعرف جيدًا أن هناك انقسامًا بين النظام السياسي والمجتمع، لكنه لم ير طبقة سياسية بديلة يمكن بدعمها أن يكون هناك انتقال سلمي للسلطة.

والطبقة السياسية البديلة لا تكون بمجرد إعلان أحزاب أو تيارات، وإنما بإنجاز "علاقة" عميقة تستغرق وقتًا مع المجتمع المساند لهذه التيارات، وبتراكم العمل والتواصل مع المؤسسات الدولية، والقوى المحلية الداعمة للتغيير.

كلنا نشعر بالمرارة من دور الأمم المتحدة الفاتر أو حتى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من الجرائم التي ارتكبت خلال ثورة تشرين، ولكن من غير الواقعي أن نطالب هذه الجهات الدولية أن تكون "ثورية" وتغامر وتجازف معنا. خصوصًا وأنها فعلًا مرتبطة بمصالح مالية واقتصادية ورهانات سياسية إقليمية، مع النظام السياسي القائم.

  • أفرز حراك تشرين الأحزاب والحركات السياسية الناشئة، برأيك هذا التعدد أمر صحي أم أنه يشتت الجهود ويفرق الكلمة، وهل تجربة تشرين يمكن اعتبارها تاريخًا نضاليًا مشتركًا للمؤسسين يمكنهم من النجاح؟

إن لحظة تشرين مفصلية ومهمة بالنسبة للحراك الاحتجاجي الشعبي، وهي لحظة كبيرة بحيث أنها قادرة على توليد حركات سياسية متنوّعة تعطي درسًا في التنوّع الديمقراطي، وكيف أنها يمكن أن تتعايش، على خلاف الاحتراب بين الأحزاب والجماعات السياسية الحالية.

لا نتوقع مشهدًا مثاليًا فيما لو وصلت هذه الأحزاب الجديدة إلى البرلمان أو ساهمت في تشكيل حكومات، فالثقافة الاجتماعية السياسية التي راكمها التاريخ السياسي العراقي منذ الستينيات على الأقل إلى اليوم ضاغطة وقوية، وربما كان من الأفضل للحركات السياسية الناشئة أن تكون بعيدة عن البرلمان في هذه المرحلة، وتستمر في اختبار نفسها ومصداقيتها مع الشعب والجمهور العام.

الشيء الأكثر أهمية هو استمرار الفاعلين في الاحتجاج التشريني، رغم الظروف الصعبة والملاحقات والتصفيات، بالتعويل على خيار الاحتجاج بدل العمل السياسي المباشر.

إن تشرين وضعت أساسًا قويًا في تغيير المزاج السياسي، ويجب الطرق على هذا المفصل مرّة بعد أخرى، وأي تغيير جدي في المسرح السياسي العراقي في المستقبل سيكون من نتائج تشرين، حتى وأن تفاجأنا بأن هذا التغيير لم يصنعه تشرينيون أصلاء.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حوار| محمد غازي الأخرس: الهوية العراقية إشكالية عابرة للزمن

حوار| سنان أنطون: صفاء السراي من أسماء العراق الحُسنى