01-مايو-2019

في نهاية المطاف انتصرت الطائفة على الوطن بنجاح ساحق (Getty)

"ويشتد رد الفعل الشعبي ضد الآيديولوجيا الرسمية المشفوعة بالاستبداد، إذا اقترنت بالعجز عن الوفاء بوعد الرفاه للشعب". هادي العلوي.

لم يفارق المفكر الراحل هادي العلوي هذا الهاجس المؤلم، وهو كالتالي: لماذا تكون المعادلة السياسية كالمعادلة الجبرية يتغير طرفها الأول بمقدار تغير طرفها الثاني؟ فلكي تحارب الإمبريالية يجب أن تستبعد الناس. ولكي تكون وطنيًا يجب أن تكون ظلاميًا. بهذه الطريقة المؤسفة تتحطم ذاكرة الناس الوطنية وتغدو كل الشعارات حبرًا على ورق، ويتم الاختراق من أوسع أبوابه.

حذر هادي العلوي كثيرًا من اختراقات الطابور الخامس للدول الخارجية بسبب الاستبداد

اقرأ/ي أيضًا: "التحرير" على الطريقة الأمريكية!

لذلك حذر هادي العلوي كثيرًا من اختراقات الطابور الخامس للدول الخارجية بسبب الاستبداد. ذلك إن مزاج الشعب، يقول العلوي، سيتغير تجاه حكومته حينما تتخذ من الاستبداد السياسي والآيديولوجي المصحوب عادة بالانغلاق الفكري ومصادرة حرية الرأي. ويتراكم النفور الشعبي تجاه السلطة حين تعجز عن الوفاء بوعودها في تحسين الأوضاع المعيشية للشعب الذي يتعين عليه أن يأكل ويشرب من مطبخ الآيديلوجيات. ثم تستغل القوى الخارجية -الغرب- الموقف. ترى ماذا سيقول الراحل هادي العلوي عن انتفاضات "الربيع العربي" وهي تُسرق في وضح النهار على يد السيسي وأمثاله؟!.

حينما تفتقد الناس إلى نموذج حي وملموس يهربون للبحث عن بديلٍ آخر، ويفتشون عن أقرب نقطة مرجعية في أذهانهم. ذلك إن الإنسان لا يمكنه العيش بلا نقطة مرجعية، إذ بخلافها تحلَ العدمية واللاجدوى، وتغدو حياة الناس بلا غاية أو هدف. فيتسرب الشعور بالدونية والانتقام من اللحظة الحاضرة، ويغدو ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا محكومًا عليه بالفشل الذريع، لأننا فقدنا نقاطنا المرجعية، وفقدنا نموذجًا يترجم لنا قيمة الحياة كمواطنين يجمعنا بلد واحد.

من ضمن الأمثلة الكثيرة التي نشاهدها في حياتنا اليومية، وفي الإعلام والسياسة ومواقع التواصل الاجتماعي، أن هناك شبه إجماع على أننا كأمّة يجمعها تاريخ مشترك، قد انتهت فاعليتها التاريخية، بمعنى إننا نعيش خارج حركة التاريخ. وقد ترجمنا هذه القناعة من خلال قبولنا بأي نموذج آخر يدخلنا في حركة التاريخ، لذلك صفقّنا للاحتلال الأمريكي. وعلى الرغم من كل الإذلال الذي تعرضنا له من هذا المحتل، لا زال البعض  يصر على هذا التنكيل ويبرر له عشرات التبريرات.

كانت الدولة البوليسية الخطوة الأولى نحو هذا المنزلق الخطير من "الحطام العربي المفتوح"

هذه الدونية التي يعاني منها الكثير لم تأتِ من فراغ بكل تأكيد، وتنطوي على بعض الحقائق بلا شك؛ حيث مثّلت معادلة "لا صوت يعلو على صوت المعركة" أكبر العوامل في تفكيك المجتمعات العربية وتحويلها إلى حطام استبدادي، حسب تعبير طيب تيزيني، وأسس للهزائم على أيدي الغزاة الأمريكيين والاستيطانيين الصهاينة. فقد كانت تلك "أخطر فكرة أمنية أتت بصيغة سياسية فتتت المجتمعات العربية، وقد كمنت وراء ذلك كله رغبة انقلابية حثيثة تمثلت شيئًا فشيئًا، في الاستئثار بالسلطة والثروة والإعلام والحقيقة".

لقد وقفت هذه المعادلة ضد أي رهان وطني ديمقراطي على حساب عسكرة المجتمع وتعميق الطائفية والفئوية. لقد أعطتنا هذه الأنظمة البوليسية كلقمة سائغة بيد الغزاة والاستيطانيين، وأجهضوا كل خطوة تقدمية بإمكانها انتشالنا من هذا الحطام، والناس لا تؤمن بفراغ مالم ترى النموذج حاضرًا وحيويًا في الواقع المعاش. كانت الدولة البوليسية الخطوة الأولى نحو هذا المنزلق الخطير "الحطام العربي المفتوح"، إذ بالقياس لهذا الأخير تبدو كل الحلول معدومة وميئوس منها من وجهة نظر قطاعات ليست بالقليلة من الشعب العربي.

اقرأ/ي أيضًا: الاحتلال الأمريكي.. كابوس اتضح باكرًا!

غير أن عواصف التاريخ العاتية لم تستثنِ الكثير من الشعوب، وهل حركة التاريخ سوى صراع مستمر، وصيرورة لا تهدأ؛ لقد تذوّقت الصين الأمرّين وهي تشق طريقها بهدوء واستطاعت أن تطعم قارّة بأكملها وتحقق الاكتفاء الذاتي، فيما عجز حكامنا الطغاة عن إطعام شعوبهم التي تعادل أعدادهم ثلث الشعب الصيني، لأنهم أنشغلوا بـ "الوحدة، الحرية، والاشتراكية"، ثم اكتشفنا فيما بعد أن هذا الشعار مقدمة "منطقية" لتفتيت ما تبقى من الوحدة، وتعميق الدويلات القطرية، وظلت هذه الأخيرة تتأرجح في هذه الثنائية "الوطنية ، الطائفية"، وفي نهاية المطاف انتصرت الطائفة على الوطن بنجاح ساحق!، لتتحول المشاريع القطرية إلى نتائجها المرجوة، وهي "أوطان" الطوائف.

حينما تفتقد الناس إلى نموذج حي وملموس يهربون للبحث عن بديلٍ آخر، ويفتشون عن أقرب نقطة مرجعية في أذهانهم

إذ اكتشفنا أن حكامنا العرب أصغر بكثير من نكران الذات، وأدنى بما لا يقاس من المشاريع الكبرى ذات الهموم القومية، وتبيّن لاحقًا، إن احتراق شعب كامل وإرجاعه إلى عصور ما قبل التاريخ لا يساوي شيئًا أمام نزوة حاكم مستبد وكرسيّه المتأرجح. لقد كان شعار طغاتنا العرب: إمّا الكرسي أو الأرض المحروقة، وفي نهاية المطاف اختاروا الاثنين!.

 

اقرأ/ي أيضًا:

استدعاء الدكتاتور صدام حسين.. الحاجة إلى البطل!

الحطام العراقي المقدّس.. المزارات الوهمية أنموذجًا