15-أغسطس-2020

جوديث بتلر (فيسبوك)

حين يقدّم الإنسان ذاته، معرّفًا بها للعالم، ومنتظرًا الاعتراف بها، فإنه لا يقوم بفعل فرديّ، ولا يمارس عملاً شخصيًا، إذ تحت هذه الواقعة، واقعة التعريف بذاته، تقف مستويات عدّة من المعطيات الأخلاقية والتاريخية وصنوف من الإكراهات تسهم جميعها في إنشاء ذلك التعريف وتختمه بختمها.

تقدّم الفيلسوفة جوديث بتلر، عبر مناقشتها لفلاسفة كبار طريقة تقديم الذات لنفسها

وراء كل تعريف معرفة. ومآل كل تعريف أن يفضي إلى تعارفٍ، وليست المعرفة في نهاية الأمر سوى هذا التعرّف على الآخر. لكنّ الذات لا تقول نفسها غُفلاً، ولا تتقدّم إلى آخر كيفما اتفق. هناك أولاً وقبل كلّ شيء المجهولية التي تكتنف كلّ ذات "لنتذكرْ: لا يعرف أحدٌ أحداً في الحقيقة". العتمة التي تلفّ دواخل الفرد تجعله غيباً بالنسبة للآخر، ولا سبيل إلى إحضاره وفهمه إلا بمقدار ما يكشف هو عن ذاته، ثمّ هناك الكيفية التي تفصح فيها هذه الذات عن نفسها. إذ كل من يريد إماطة شيء من العتمة عن نفسه لا بدّ أن يتلبّس بسردٍ يصف فيه ذاته، وهو سردٌ يكون عرضة لصنوف من الإكراه ابتداء باللغة التي ينشئ فيها خطابه، مروراً بعنف أخلاقيّ ضاغط له سلطان كبير في تحديد ما يُسمَح بكشفه وما لا يُسمَح، وانتهاء بالقيد القانونيّ الذي يُمارَس على الذات أو تمارسه الذات على خطابها، ما يجعل كلّ وصف للذات مشتبكاً مع مفاهيم المسؤولية القانونية والخُلقية.

اقرأ/ي أيضًا: قبل أن يقعَ الكلامُ على العالم

تقدّم الفيلسوفة جوديث بتلر، عبر مناقشتها لفلاسفة كبار أمثال هيغل، هيدغر، ليفانتس، نيتشه وفوكو ولاكان وآخرين، طريقة تقديم الذات لنفسها، ومقدار ما يُهدر من هذه الذات في هذا السبيل.

هناك دائمًا شيءٌ ما، ضروريّ وثمين، يتساقط من جيوبنا ونحن نسير في الطريق لتقديم أنفسنا إلى آخر، فلا يمكن للإنسان تلخيص ذاته، أو بتعبيرها "لا تستطيع الأنا أن تقدّم وصفًا نهائيًا وكافيًا لذاتها لأنها لا تستطيع أن تعود إلى مشهد المخاطبة الذي أطلقها"، ذاك أن التعبير الذي أصفه في كلّ حديث عنّي مرتبط أشدّ الارتباط بما يحدث خارجًا عنّي، فمادام ليس هناك من خطابٍ إلا وهو موجّه لآخر، فإن إكراهات الآخر ستمارس فعلها عليّ وعلى خطابي، إكراهات وشروط من قبيل: هل سيفهم هذا الآخر ما أقول؟ هل سيكون تعبيري عرضة لسوء فهم من قبله؟ هل سأكوّن لديه صورة عن نفسي لم أقصدها؟ هل سيرفضني؟ وبالنتيجة هل أنا فعلًا ما يتضمنه هذا السرد عن نفسي؟

تستشهد بتلر بمقطع من قصيدة لبول تسيلان، مقطع جدّ قصير من خمس كلمات، لكنه جبّار في تلخيصه للمسألة برمتها، يكتب تسيلان:

أنا أنتَ

إنْ كنتُ أنا!

نحن نحاول شرح أنفسنا، ودائمًا لا يصحّ الشرح إلا بافتراض آخر أمامنا مباشرةً، إذ كلّ كلام هو موجّه لآخر بالضرورة، آخر حقيقيّ أو افتراضيّ، ما يجعلنا أمام ما يشبه الاعتراف "بالمعنى الدينيّ كما في كرسيّ الاعتراف"، ويلتبسُ كلامنا لا لأننا يستعصي علينا فهم ذاتنا وتبديد مجهوليتها وحسب، بل لأننا نجهل تمامًا فحوى الذات الأخرى التي أمامنا ونجهل مقاصدها، مع أنها هي التي تسهم في توجيه خطابنا عن ذاتنا وتتحكم به وبنا من بعيد.

هناك خُلفٌ "بالمعنى المنطقيّ" لا سبيل إلى ردمه باللغة لأنّ منشأ هذا الخُلف الأبديّ هو اللغة ذاتها، توجزه بتلر بقولها "الوسيلة التي تكوّنتْ بها الذاتُ ليست نفسها الشكل السرديّ الذي تحاول توفيره إعادةُ بناء ذلك التكوّن".

محكوم عليّ حكمًا أبديًا أنّ ما أقوم بتكوينه ـ من خلال اللغة ـ عن ذاتي يظلّ مشكوكًا في عائديته لي، ولا دليل على أنه ملكي أنا. "كيف حدث أن تكوّني أصبح ملكًا لي؟ أين ومتى وقع افتراض الملكية والتابعية؟ لا نستطيع أن نروي قصة عن هذا".

لا نستكطيع أن نروي قصة عن أنفسنا إذن. فما يسمّيه فوكو "تلفيظ الذات" أي تحويل الذات إلى ملفوظات يمرّ عبر وساطات عدّة، وكلّها ذات طابع إكراهيّ، فدائمًا ما تكون لتلفيظ الذات نبرة اعتراف بخطأ ما، أنا مخطئ سلفًا ما دمتُ أنشئ خطابًا عن ذاتي أمام قوّة منظّمة "الآخر بوصفه مجتمعًا أو سلطة دينية أو نفسية أو أخلاقية". يشير فوكو إلى أن هذه الوسائط الإكراهية تجعل من كلّ اعتراف عن الذات غير متطابق بالضرورة مع "الحقيقة الداخلية المقصودة"، إنه ببساطة اعتراف تحت "التعذيب"، تقوم فيه الذات بـ"نشر نفسها" وتقديمها في كلمات لتظهر أمام ذات أخرى، لأنها لا تستطيع أن تبدو إلا في مشهد مخاطبة وحوار مفترَض. لكنّ التراجيديا المؤلمة حقًا تتمثل في أنّ ما قلته عن نفسي تحت هذه الظروف هو ما ستكون عليه ذاتي فعلًا أمام الجميع. نحن نصبح ما نحن عليه بعونٍ من أقوالنا عن أنفسنا.

الطريقة التي نتصفح بها العالم، كما الطريقة التي نسمح فيها للعالم بأن يتصفّحنا، محكومة بهذا السلوك البشريّ الذي تحرّكه قيم وقواعد إرشادية وثوابت أخلاقية كثيرة "تعبير جورج باتاي الرائع: الأخلاق كثيرة وهي تملأ كلّ شيء". هذه الطريقة رسم لنا نيتشه جذرها ومآلها حين قال إن سلوك الإنسان وفقًا لهذه القواعد ليس متأتيًا من رغبته في فعل ما هو خيّر بقدر رعبه من العقاب وآثاره.

الذات لا تستطيع وصف نفسها خارج حدود القواعد التي تنسّق الأشكال الممكنة التي يمكن أن تتخذها هذه الذات

في الخلاصة، ولا أظن أن لكتابٍ ما خلاصة، أن الذات لا تستطيع وصف نفسها خارج حدود القواعد التي تنسّق الأشكال الممكنة التي يمكن أن تتخذها هذه الذات. وهي قواعد تأتي إليها من خارجها لتمارس سلطتها. بحيث يبدو كما لو أن كلّ الأشياء من حولي هي "أعداءُ سلطاني على ذاتي" بالتعبير اللمّاح للوكيزيو.

بقيت لديّ ملاحظة لا بدّ منها:

قرأت هذا الكتاب قبل سنين عدّة، وأعدتُ قراءته مرتين لاحقًا، وكتابتي هذه المقالة اليوم ليست "بريئة" أبدًا. فيها ما يشبه التحية للفيلسوفة "جوديث بتلر" على مواقفها العظيمة المناصرة لفلسطين وللعرب ووقوفها المتكرر ضد سياسات إسرائيل العدوانية، الأمر الذي جرّ لها نقمة ونقدًا شديدين!

..................



هذه المقالة نتيجة قراءتي كتاب:

جوديث بتلر ـ الذات تصف نفسها

ترجمة: فلاح رحيم

من إصدارات جامعة الكوفة ـ عن دار التنوير ـ بيروت ـ الطبعة الأولى ـ 2014

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

لا أحد يعرف أحدًا

كيف ومتى أصبحنا معدة تطحن نفسها؟