20-ديسمبر-2021

الحرمان من المعرفة كان وسيلة فعّالة للسيطرة (Getty)

خلال الانتفاضة الشعبية في العام 1991 أُجبرت على دفن كتبي في فراغ ما بين حائطين في البيت، والتغطية عليها بالإسمنت، خشيةً من حملات التفتيش المفاجئة لرجال الأمن في تلك الفترة. وللمفارقة، فإن كل الكتب التي دفنتها كنت قد اشتريتها من السوق، أي أنها "شرعية"، وليست كتبًا ممنوعة، ولكن هذه الكتب "خليط من كتب دينية ويسارية" يمكن أن تشير إلى توجّه معيّن لصاحبها، وتثير الشبهات حوله.

قد يبدو غريبًا للشباب العشريني اليوم ولا يصدّقون كيف أن الحرمان من المعرفة كان وسيلة فعّالة للسيطرة

بعد قمع الانتفاضة بسنة ظهرت فجأة، وعند بسطات باعة الكتب في الكاظمية والباب المعظم، وفي سوق مريدي، القريب من مسكني في مدينة الثورة "الصدر حاليًا" مجموعة من الكتب الجديدة، أبرزها أجزاء من تفسير السيد عبد الأعلى السبزواري (مواهب الرحمن في تفسير القرآن) ومقدمة تفسير البيان للسيد الخوئي، الذي يبدو أن السلطة سمحت بطبعه مؤخرًا ضمن سياسة الاحتواء للمجتمع الشيعي بعد قمع انتفاضته في الجنوب، ثم صارت تظهر كتبٌ أخرى قديمة، وصارت تباع علنًا في بسطات الكُتبيّين، ثم ظلت تظهر الكتب الممنوعة، مصوّرة بالفوتوكبي، واستمر سيل الكتب الممنوعة، الدينية والسياسية، تظهر تباعًا، بل أن بعض الكُتبيين صار متخصصًا بنسخ وتوريد الكتب الممنوعة، وكل ذلك فُهم في وقتها على أنه دلالة على عدم اكتراث السلطة، وأن قبضتها ارتخت، ولم تعد كما كانت في الثمانينيات، حيث يُعتقل الشخص ويعذّب، وربما يتعرّض لعوقٍ دائم بسبب كاسيت لمحاضرة دينية مسجّل من الإذاعة، كما حصل لأحد الأصدقاء.

اقرأ/ي أيضًا: الصراع بين الديمقراطية والسلطوية.. مَن يَغلبُ مَن؟

في واقع الحال أن وعينا كشباب في تلك الأوقات كان محصورًا بما يقع في أيدينا من كتب، وما نسمعه ونشاهده على الإذاعة والتلفزيون الرسميّين. كانت هناك الكثير من الأسئلة حول قضايا سياسية أو تاريخية تبقى معلّقة لزمن طويل بسبب نقص المعلومات، أو عدم الثقة بالقراءة التي تقدمها السلطة، وغياب المصادر التي توفّر قراءات أخرى مضادة لوجهة نظر السلطة.

كان البحث عن المعرفة عسيرًا في جوٍّ من الندرة عند من يكون توّاقًا لها، ويعرف أن هذه الندرة هي وسيلة من وسائل السلطة للسيطرة على الأفراد وترويضهم ثقافيًا.

أستذكر هذه التفاصيل، وهناك الكثير غيرها، وأقارن بينها وحال الشباب اليوم، ممن هم في عمرٍ مقارب لعمري مطلع التسعينيات، وكيف أن الهاتف المحمول في أيديهم يوفّر لهم اليوم سياحة هائلة غير مسبوقة في "كلّ شيء" تقريبًا. وكأنه مصباح علاء الدين السحري، حيث مئات آلاف الكتب المقرصنة بكلّ اللغات، وآلاف الساعات الفيديوية وتطبيقات البودكاست الصوتية ومئات آلاف المحتويات المعلوماتية، التي يمكن أن تمنحك فكرة أولية عن كلّ شيء بمجرد كبسات بسيطة على الأزرار.

أفكر هنا في حال السلطة، أيّ سلطة كانت، وهي ترغب بترويض هؤلاء الشباب، والسيطرة على وعيهم وتفكيرهم، وكم سيكون الموضوع سيكون سهلاً لو أننا ما زلنا في زمن صدام، حيث حرمنا لسنوات من التعرّف على سعدي يوسف مثلاً، أو فوزي كريم، حرمنا من التعرّف على الأديان والطوائف، وما هو أهم؛ سمّم الفضاء الاجتماعي بعين الرقيب التي تجعل كلّ نقاش حرّ بين الأصدقاء ملغومًا بالترقّب والخوف من وشايات كتّاب التقارير.

كلّ هذا صار من الماضي، وقد يبدو غريبًا للشباب العشريني اليوم، ولا يصدّقون كيف أن الحرمان من المعرفة كان وسيلة فعّالة للسيطرة.

إن الأحزاب المسيطرة في العراق اليوم، وجلّها أحزابٌ إسلامية نشأت على، أو نسجت على منوال، حركة الإخوان المسلمين، في الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي، مشبّعة بعمق بثقافة سياسية واحدة تجمعها مع الأحزاب السيارية والقومية، تقوم على فكرة الوصاية، وقيادة "النخبة" للجمهور العام، وأنها تعلم من أمرهم ما لا يعلمونه من أنفسهم، وأيضًا ثنائية الولاء والبراء، التي تترجم سياسيًا إلى الوطني والخائن، وتقسيم العالم إلى فسطاطين، حيث المعركة الأساسية لديها ليس تحديات التنمية ومشكلات المجتمع الداخلية، وإنما المواجهة مع الآخر الخارجي، والتحشيد لـ"هرامجدون" مستقبلية متخيّلة، كمعركة شاملة فاصلة مشحونة بالدراما مع الشرّ الأكبر، الذي يكون مرّة الغرب أو الشرق أو أي عدو خارجي، يمكن إلهاء الناس به عن بؤسهم اليومي الذي يحتاج إلى أناس يعملون على إزاحته لا إطلاق الشعارات.

هذه العدّة والأدوات لم تعد نافعة اليوم، فلا يوجد أحد قادرٌ على السيطرة على الفضاء العام، مهما فعل، ولا أن يتحكم بمصادر المعرفة أو الإعلام، والأطفال الذين وضع أباؤهم بأيديهم الهواتف المحمولة البدائية في 2003 كنوع من التسلية، ثم تعايشوا مع البث الفضائي ثم الواي فاي والأجيال الأحدث من الهواتف الذكية، غير قادرين أصلاً على تصوّر عالم من لون واحد [وهو العالم الذي اختبره جيلنا جيدًا].

هذه الأجيال الجديدة من الشباب لن تضطر الى دفن كتبها بين حائطين، أو البحث لأشهر طويلة عن مجلة أمريكية منحها مراسل أجنبي لصديق، فيها ريبورتاج من أربع صفحات عن حرب الخليج الثانية، كما حصل معي ذات مرّة.

 الوسيلة الوحيدة لـ"السيطرة" على عقول هذه الشباب هي إقناعهم وكسبهم يكون من خلال الحوار والحوار يفترض أولًا الاحترام لا الاستصغار أو النظر بفوقية

إن الوسيلة الوحيدة لـ"السيطرة" على عقول هذه الشباب هي إقناعهم، وكسبهم يكون من خلال الحوار، والحوار يفترض أولاً الاحترام لا الاستصغار أو النظر بفوقية، كما تفعل الأحزاب المتحكمة في الواقع العراقي اليوم والتيارات الدينية الداعمة لها.

إنها بذلك تخسر الشباب، وتستمر بخسران شعبيتها ورصيدها السياسي بينهم.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الواقع العراقي وشروطه المُعَقّدَة

تضامنات سياسية مٌزَيّفَة