24-سبتمبر-2021

عملية الترشيح لن تظل على حالها في حال استمرار المراقبة (فيسبوك)

غادَرَت المجتمعات "المتعلّمة" منطقة الثقة المطلقة إلى منطقة التشكيك غير المقيّد. هي، مثلاً، لم تَعد تُطلق يد الإنسان ثقةً بضميره، متحوَّلة إلى مراقبة الإنسان لتحصين ضميره. ليس لدى هذه المجتمعات إنسانًا فوق الرقابة، لأنها عرفت وبسبب تراكم الخبرة، بأن إيكال الإنسان إلى ضميره وتركه من دون مراقبة تعسفٌ بحقِّه، وظلم لضميره.

تحوّل الكثير من مناضلي الأمس إلى سفاحي اليوم لأننا وثقنا بضمائرهم التي كانوا عليها أيام كانوا معارضة ونسينا أن ضمير المحكوم غير ضمير الحاكم

عندما نترك أموالاً طائلة تحت مسؤولية فرد اعتمادًا على حسَّه الأخلاقي، ونتركه من دون عين رقيبة، فإننا نعرِّضه إلى ضغط هائل، ضغط الظروف، وضغط الحاجات، وضغط الغرائز، وهكذا نحوّله إلى كرة على حافَّة منحدر حاد. ومن ثم فإننا ندفعه دفعًا باتجاه ارتكاب الخطيئة وتلويث الضمير، وهذا هو التعسف بعينه. أما إذا راقبناه وحاسبناه، فإننا نرفع عن كاهله كل هذا الضغط، لأن لا الظروف ولا الحاجات ولا الغرائز سيكون لها القدرة على التحرك مع وجود عين حادّة النظر ودائمة المراقبة.

اقرأ/ي أيضًا: عن الديكتاتور الصغير

سَلِّم إنسانًا مسالمًا سلطة كبيرة على الآخرين، واتركه من دون مراقبة ومحاسبة، ثم تَنَحَّ جانبًا وراقب سرعة تحوله إلى وحش كاسر، وستعرف حينها حجم شراكتك في تحويل هذا الحمل الوديع إلى ذئب لا يرتوي من الدماء.

لهذا السبب تحوّل الأعم الأغلب من مناضلي الأمس إلى سفاحي اليوم، والسبب أننا وثقنا بضمائرهم التي كانوا عليها أيام كانوا معارضة، ونسينا أن ضمير المحكوم غير ضمير الحاكم، فضمير الأول خفيف الحمل، إذ لا سلطة ولا مال ولا مسؤولية. أما ضمير الثاني، فحمله ثقيل وفرص نجاته من الجريمة تكاد أن تكون معدومة تمامًا. إذًا، هل بقي أيٌّ من مناضلي الأمس ممن أمسك بالسلطة أكثر وداعة من المجرم صدّام؟

راقبْتُ التعليقات التي ناقشت موضوع جريمة شرطة بابل، حيث مسرح الحدث يجمع بين محقِّق كامل السلطة وخال من أي رقابة وبين متَّهم بقتل زوجته. وهكذا لم يكن أمام المحقِّق غير أن يسلك أسهل الطرق، وما دامت عين الرقيب نائمة، فلم لا يُجرّب تعذيب المتهم لانتزاع الاعترافات بوقت قياسي، وهذا ما حدث، حيث عذَّبه إلى درجة دفعته للاعتراف بجريمة لم يرتكبها، راضيًا في أن يسير على سكّة يعلم بأنها تسير به إلى المؤبد أو الإعدام. وخلال مراقبتي التعليقات وجدت بأن الأعم الأغلب منها تذم أخلاق ضابط التحقيق، والقليل منها يذم وزارة الداخلية لأنها لم تعمل على تأهيله وأمثاله إلى درجة تكفي لتحصينهم من الوقوع بمثل هذا الخطأ. والحقيقة؛ أن لا الأخلاق لوحدها ولا التأهيل لوحده، ولا كلاهما مجتمعين يكفيان لتحصين أي ضابط تحقيق من الوقوع بجريمة التعذيب، بل هذين العاملين مجتمعين إضافة إلى عامل المراقبة، وهو الأهم هنا.

راقب ضباط التحقيق، واجعلهم على ثقة تامَّة بأن أي جنوح عن سكة العدالة والمهنيَّة سيساوي بينهم وبين أي متهم يحققون معه، وسيرمي بهم خلف قضبان الجريمة، وعندها لن نعود بحاجة إلى الابتهال في محراب ضمائرهم لكي تكون رحيمة. راقب كل صاحب سلطة أو مؤتمن على مال، وسترى كيف أن معدَّلي الظلم والفقر سينزلان سريعًا. 

 الأعم الأغلب من ردود الأفعال على حادثة بابل تذم أخلاق ضابط التحقيق، والقليل منها يذم وزارة الداخلية لأنها لم تعمل على تأهيله وتأهيل أمثاله 

راقب عضو البرلمان وحاسبه دائمًا، ثم أجلده بورقة الاقتراع، وسترى كيف أن عملية الترشيح لن تظل على حالها، أقصد وكأنها ورقة يانصيب يريد أن يجِّرب كل صاحب حظ عاثر اللعب بها. أما إذا نسيت صوتك بمجرد أن غادرت محطة الاقتراع، وقَبِلت بأن تُلْدَغ من أنياب الأفعى ذاتها مرة أخرى، فعند ذلك يحق لك أن تمضي أربع سنوات من عمرك تلعن الظلم الذي يمارسه بحقك ضمير كنت أنت أحد الشركاء بانحداره.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الدولة والجماعة في العراق: من يتحكم بنا؟

حرية التعبير في مجتمع أهلي.. أزمة دولة وزعامة