17-أغسطس-2020

لا يحق لدولة محدودة الإمكانات مثل الإمارات أن تختار (فيسبوك)

دعينا نعود إلى المكتب الخاص بك، لنعرج على الجدل بشأن العقوبات في العراق وبصفة خاصة على شيء قلتيه في برنامج تلفزيوني، بما معناه "قتل خمسمائة ألف طفل عراقي، كان أمرًا يستحق ذلك"، أحدهم قال "كيف يمكن لمادلين أولبرايت تبرير وفاة نصف مليون طفل عراقي ثم يمكنها النوم ليلًا؟" مادلين أولبرايت: "لقد سبق لي الاعتراف بأن هذا هو أغبى شيء قلته واعتذرت عن ذلك". لقاء في منتدى الأمن العالمي بسلوفاكيا 28 نيسان/أبريل 2016.

"إن اتفاقًا مع العرب أمر ضروري لنا، وليس من أجل السلام. إذ لا يمكن أن نبني البلاد في حالٍة من الحرب الدائمة، لكن السلام هو وسيلة. أمّا الهدف فهو التحقيق المطلق للصهيونية". دافيد بن غوريون.. "إذا كنّا نمتلك الكتاب المقدّس، وإذا كنّا نعتبر أنفسنا شعب الكتاب المقدّس، فإنّ علينا بالمثل أن نمتلك أرض الكتاب المقدس.. أنا هنا لا أعرض برنامجًا سياسيًا، وإنما أعرض أمرًا أكثر أهميّةً، أعرض الوسائل لتحقيق حلم الآباء. وعلى الدول الأجنبية أن تفهم أن سيناء ومرتفعات الجولان ومضيق تيران وجبال غرب الأردن تقع في قلب التاريخ اليهودي". موشي دايان. من كتاب طيب تيزيني (بيان في النهضة والتنوير العربي).

دائمًا ما تغريني هذه الحقيقة، وأعتمد عليها كنموذج تفسيري ومادة تحليلية لواقعنا السياسي وهي: أنت لا تمتلك ترف الخيار في الحرب والسلم. من يدافع عن استقلاله النسبي ويكافح من أجل الاعتراف، لم يجعل من هذا الكفاح شرطًا مسبقًا، بل هو نتيجة لسياسات القهر. بمعنى آخر، لم يكن الكفاح من أجل الاستقلال شرطًا مسبقًا لعلاقتنا مع الآخر، ولم يكن ترفًا أو استجمامًا، وإنما كان نتيجة منطقية لسياسات الآخر تجاهنا. فلا الحرب ولا السلام كانت خيارات حرّة في منطقتنا العربية، بل تم إقحامنا فيها، فكان الطريق نحو الاستقلال هو النتيجة المترتبة على سياسات القوى العظمى. على سبيل المثال: لم يتعرض اليهود إلى إبادة بشرية في المشرق العربي، ولم تصنع لهم معسكرات اعتقال بشعة. ببساطة شديدة: لقد نكّلت أوروبا باليهود وكان على العرب أن يدفعوا هذا الثمن غاليًا!

دولة مثل الإمارات لا يتجاوز عدد سكانها المليون ولا تشكّل خطرًا استراتيجيًا ولا تشترك بحدود تعلن تطبيعها مع إسرائيل، كما لو أنها كافحت ببسالة لتصل إلى هذا الخيار

بالعودة إلى انعدام الخيارات، بعد نكسة حزيران\يونيو انحسرت خيارات العرب، وحسم الأمر لصالح الصهاينة باتفاقية سلام بين البلدين، ولم يعد نظام عربي يجرؤ لتعويض الرضّة العنيفة التي تعرّض لها العرب. منذ ذلك الحين أصبحت الخيارات أمرًا معدومًا، وترفًا سياسيًا لا طائل منه. بعبارة أكثر دقّة، لقد تم تضييق الخيارات؛ فسواء كنت عدوًا أو صديقًا لا تغيّر من المعادلة شيئًا على الإطلاق، فالأعداء والاصدقاء تصنعهم السياسات الخارجية للقوى العظمى. لا يمكنك أن تختار نظامك السياسي والاقتصادي، لا يمكنك أن تحرّك جنديًا واحدًا صوب إسرائيل. كنّا نسمع في العراق منذ نعومة أظافرنا عبارة "الموت لإسرائيل" في الوقت الذي كان العراق غاطسًا بحرب عبثية مع جيرانه. ولم تسترجع سوريا أراضيها المحتلة بعد حربها مع إسرائيل. باختصار: لم يرجع شبر من الأراضي العربية المحتلة، ولا توجد نية حقيقية لاسترجاعها في الوقت الراهن على الأقل. حتى حزب الله لم يكن بموقع الهجوم، بل كان بموقع تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي.

اقرأ/ي أيضًا: عراقيون يسخرون من "السلام" بين الإمارات وإسرائيل: "تل أبيب ستنام بأمان"

ما النتيجة المترتبة على ذلك؟ خراب جزء كبير من المشرق العربي. لقد أضحت دولًا مثل سوريا والعراق في الهامش، وتم تدمير بناها التحتية، ليس لأنها هاجمت إسرائيل، وإنما لفرض الديمقراطية على شعوبها على الطريقة الأمريكية. لذلك يحار المرء حينما يسمع معاهدة سلام أو تطبيع مع إسرائيل، فهل ثمّة شيء يدعو للتطبيع بعد هذا التسليم المطلق؟ وتصل الحيرة إلى مدياتها القصوى حينما يبشرنا "البرغماتيون" أنهم توصلوا إلى اتفاقية سلام أو تطبيع (كلاهما نفس المعنى) مع إسرائيل على أنه منجز ضخم وخطوة "حكيمة". دولة مثل الإمارات لا يتجاوز عدد سكانها المليون ولا تشكّل خطرًا استراتيجيًا ولا تشترك بحدود تعلن تطبيعها مع إسرائيل، كما لو أنها كافحت ببسالة لتصل إلى هذا الخيار! فكما أسلفنا، أنت لا تمتلك ترف الخيار في أن تكون حليفًا للقوى العظمى، ولا تمتلك إبرام هذه المهزلة المسمّاة "معاهدة سلام"، ولا تمتلك خيارات الحرب والسلام. فعلى سبيل المثال، لا يحق لدولة محدودة الإمكانات مثل الإمارات أن تختار، فتصميمها وتركيبتها لا يسمحان بذلك، لأنها ليست دولة مستقلة، حتى لو سمحوا لها بهامش من الحرية تتنقل فيه وتلعب أدوارًا معينة في اليمن وليبيا والصومال، فهذا "زيادة خير" كما يقولون، وتبقى سفارات الدول الكبرى هي من تحدد الأولويات، وبخلافه ستختفي هذه الدولة من الخارطة وستعلن إفلاسها بأيام معدودات، وسيغدو الموت هو خيارهم الوحيد وليس خيارك.

دائمًا ما يرغموك على خيارين أحلاهما مر. وبالتأكيد سيكون خيار الموت هو الحل للقوي المهيمن. حينما سألوا وزيرة خارجية الولايات المتحدة مادلين أولبرايت في وقتها عن ضحايا الحصار وقد بلغ عدد وفيات الأطفال قرابة النصف مليون، ردت الوزيرة بما مضمونه: أنه ثمن لا بد منه. حتى موتك في هذه المنطقة محدد سلفًا، وما عليك سوى الانجرار قسرًا لهذه المحرقة الجهنمية. ومن ثم سيعتذر المهيمن عن "الخطأ" الذي ارتكبه. من يخرج عن هذه المعادلة سيدفع الثمن غاليًا، وسيرغمونه على ما يريدون، ونحن مرغمون منذ اللحظة الأولى لسايكس بيكو؛ تلك اللحظة التي أعلنت تدشين منعطف تاريخي رهيب وهو: منذ اليوم لا تمتلكون ترف الاختيار في نظامكم السياسي ولا الاقتصادي ولا العسكري، بل لا يحق لكم إبرام المعاهدات المصيرية، ولا يحق لكم تحديد الجغرافية، فكل هذه يصنعها القوي المهيمن، فعن أي معاهدات وتطبيع نتكلم؟! هذه الخطوات تقتضي شرطًا مسبقًا، وهو الاستقلال، فما عداه لا نسمع سوى مسرحيات هزلية أسمها "معاهدات السلام".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

اتفاق الإمارات وإسرائيل: في معنى الإعلان عن المعلن

رسميًا.. العلاقات الإسرائيلية الإماراتية إلى العلن