27-فبراير-2020

من يسعى للتغيير ليس له منفذ آخر غير الممارسة السياسية (Getty)

إن أي جماعة بشرية ما، لا "تميّز" نفسها عن سواها، ولا تحقق استقلالها الناجز، إلا إذا نظّمت نفسها.. غرامشي

إن كان ثمّة رهان خاسر فهو الاستماع إلى الجدل "السياسي" الذي يجري بين التنظيمات الإسلامية وخصومهم. فهو جدل أقل ما يُوصف بـ"الفارغ"، لأنك لا تعثر على ملامح هويته، خصوصًا إن كان موجهًا لتنظيم إسلامي مشارك في السلطة، لماذا؟

  •  أولًا: لأنّ الإسلاميين لا يٌخضِعون جدالاتهم لأي أسسٍ أو معايير دنيوية، فيما يتعلّق بالسياسة تحديدًا. أي أنهم، وأثناء الجدل السياسيّ، لا يفصلون بين الديني والدنيوي. فسيتم تسويق كل التبريرات ووضعها في إطار عقائدي، بمعنى سترتكز الجماعات الدينية على خطابها العقائدي في رد الشبهات السياسية.

خصوم التنظيمات الإسلامية يعزّزون من توجهاتهم العقائدية المتصلّبة، حينما يتحوّلون إلى معارضة بلا غطاء شعبي واسع

 إن التنظيمات الإسلامية لا يمكنها توظيف المقولات الفقهية في عملها السياسيّ بشكلٍ عام؛ ذلك إن المبادئ الفقهية - وبشقها المعاملاتي - لا زالت حتّى هذه اللحظة لم تٌؤطَّر بإطارٍ قانونيٍّ عام يمكن الاعتماد عليه في مؤسسات الدولة. لذلك، لم تحسم موقفها الديني من الممارسة السياسية؛ هل هي ممارسة دينية للسياسة، أم ممارسة دنيوية، أم هي ممارسة مٌركبّة وهجينة، أم تَستخدم العقيدة، بشكلٍ خاص، في الصراعات السياسية حينما تشتد الضغوط عليها؟

اقرأ/ي أيضًا: المقاومة والسلطة.. معركة النفور المتبادل

  •  ثانيًا: لأن خصوم التنظيمات الإسلامية يعزّزون من توجهاتهم العقائدية المتصلّبة، حينما يتحوّلون، أي خصومهم، إلى معارضة بلا غطاء شعبي واسع، ويقعون في فخ المبالغة في تقدير الذات. إن الاكتفاء بالتنمّر والتهكّم على خصومنا يسجّل لنا نقطة واحدة وهي حريّة التعبير، لكنّه لا يسجل لنا، بالضرورة، النقطة الثانية والأهم وهي حرية التفكير بشكل منضبط، وقد نبقّى معلقين على مذبح حرية التعبير من دون نتيجة تٌذكر. فبالتالي تتلاشى من بين أيدينا النتيجة المترتبة على النقطتين، ألا وهي الممارسة السياسية، ذلك المختبر الذي نكتشف فيه قوّة خطابنا وجدواه وفاعليته. طبعًا أعني هنا بحريّة التعبير والتفكير فيما يتعلّق بالنشاط السياسي؛ فالحد الفاصل بين صحّة هذا الخطاب أو ذاك تحددها وتكتشفها وتصادق عليها وتمنحها الميزة عن باقي الخطابات هي الممارسة؛ فلا أكون مميزًا لمجرد تمتعي بصلابة المنطق وقوة الحجة من الناحية التجريدية، بل ما يميزني عن الآخرين، في النشاط السياسي، هو ممارستي السياسية.

 إن التركيز على التعبير فحسب، أو حتّى التفكير بدون ممارسة سياسية، وبدون سلوك يبرهن على صدقية معتنقي هذه الأفكار، سُيسهم في تعزيز قناعات الغير بعدمية كل المفاهيم التقدمية التي نستهلكها أثناء الجدل مع التنظيمات الإسلامية التي تدير دفّة السلطة. فتغدو مفاهيم مثل "الحرية" و"التعددية" وغيرها، مثار تهكّم من الجمهور المتدين كردّة فعلٍ وانتقام رمزيّ لما يحصل لهم، فيسقط النموذج قبل أوانه ويجابه بإعلام مضاد وعنيف، ويتعرّض خصوم الإسلاميين إلى معركة "تكسير عظام" رمزية، سيكون الطرف المنتصر فيها هم الإسلاميون حتمًا.

 ولا يعني هذا إن التنظيمات الإسلامية وجمهورها المتدين سيقفون موقف المحايد والمشجّع تجاه هذه المفاهيم في لحظات "السِلم"، فهو جمهور متديّن في نهاية المطاف، وينظر بارتياب ضد هذه المفاهيم الحداثية لأنها، وبشكلٍ عام، تقف بالضد من توجهاته الدينية كما يعتقد. غير أن استفزاز الذهنية العقائدية والخوض في جدلٍ غير منتجٍ، سيضاعف من حدّة التوتر وتنامي الخطاب العدائي.

 إذن، إن تهديد مراكز القوى السياسية والاجتماعية ، وتعميق حِدّة الجدل مع محركات هذه القوى بلا نموذج موازٍ وبديل مقنع، فهي تعني إننا نمارس "سادية" على أنفسنا، وانتحار سياسي قبل أوانه! وتعني أيضًا أننا لم نحافظ على هويتنا السياسية أثناء الحوار مع الجماهير المتدينة.

كلّما اشتد الضغط السياسي على الجماعات الدينية، اتّخذت من العقيدة سلاحًا لها للرد على خصومهم. وكلّما اشتد ضغط الإسلاميين على خصومهم سيلجأ هؤلاء للنَيَل من معتقداتهم الدينية، فيتحول الجدل إلى هجين مركّب ليس له ملامح واضحة: أهو جدل سياسي أم ديني؟ ومن ثمّ يمكن للمرء الاستفادة من أي شيء من هذا الجدل إلّا السياسة! ولا يعقل أن هذا الجيش الذي خسرناه من الشهداء والجرحى والمعاقين والمخطوفين، هو للجدل وضياع الوقت مع خصم سياسي أقوّى منّا من حيث النفوذ والإمكانات المادية والمعنوية، ولا يعنون نفسه بوصفه فاعلًا سياسيًا، بقدر ما يعطي لنفسه هوية عقائدية.

من يسعى للتغيير ليس له منفذ آخر غير الممارسة السياسية تحديدًا، وبخلافه يفضي هذا الجدل إلى دائرة مغلقة

إنّك لا تحظى بكسب الجولة حتى لو كنت سقراط في مثل هذه الفوضى، (التي تنفخ في رمادها مواقع التواصل الاجتماعي)، علمًا أن مشكلتنا هي سياسية بالأساس؛ فالتنظيمات الإسلامية لا تريد الاعتراف بأخطائها في إدارة الحكم، وخصومهم لا يريدون الاعتراف بأنّهم جماعات هلامية لم تؤطر نفسها تنظيميًا لكي تستطيع، على الأقل، من إحداث الفارق ولو قليل، وتكسب جماهيرها المؤيدة لها قبل فوات الأوان، وهي دائمًا تقع فريسة المبالغة في تقدير الذات وتكرر نفس الأخطاء، وتتكاسل عند دورها الجوهري وهو الممارسة السياسية التي تعتبر الحد الفاصل بين الادعاء و الفعل الحقيقي، والمختبر الذي نبرهن فيه على قوّة حجتنا، والمعيار الحقيقي لتميّزنا عن الآخرين.

اقرأ/ي أيضًا: رحلة التقدم.. بين المقدس والعلماني

إن خصوم التنظيمات الإسلامية سيجابهون قوّة سياسية فاعلة، ذلك أنه مهما كانت السمات الكيفية لهذه القوّة، ومهما كانت درجة قناعتنا بها، فلن يغيّر من الواقع شيئًا، والصدريون في العراق مثلًا - كنموذج سياسي لا يحظى بتقديراتنا -  خير نموذج لهذه الحقيقة؛ فهم من الناحية الكمّية قوة سياسية مهيمنة. وبالطبع أن معايير الهيمنة في العراق، ليست معاييرًا حديثة، وإنما تتماشى ومرحلة ما قبل الدولة، حيث تهيمن فيها الزعامات الدينية والقبلية والعائلية، وتحظى بولاءات وجدانية من قبل أتباعها كما فصلنا في مقالة سابقة.

فالجدل مع الجماعات الدينية غير منتج على الإطلاق للأسباب التي ذكرناها، وأهمها هو تشرذم الجماهير وعدم توحيد خطابها السياسي؛ فمن يسعى للتغير ليس له منفذ آخر غير الممارسة السياسية تحديدًا، وبخلافه يفضي هذا الجدل إلى دائرة مغلقة.

لذلك لا تستطيع كسب الجولة لصالحك أثناء الجدل مع التنظيمات الإسلامية، لأنك لا تفهم معالم رؤيتها؛ فإذا فشلت هذه التنظيمات فالعيب فيها وليس في الدين، وإن نجت فقد أعطت النموذج، بينما أنت تكتفي بالكلام! وهذا الأخير ينبغي أن يُنقل من مواقع التواصل الاجتماعي إلى قبّة البرلمان، ليتحول إلى جدلٍ سياسيٍّ منتج رغم صعوبته، وبخلافه لا يمكنك إثبات تميّزك، وستطوي صفحتك الأيام أنت ومن ذهبوا غدرًا وهم يطالبون باسترجاع الوطن.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

آباء "ورعايا".. رحلة التمرّد الطويلة

منافسة الصدريين: شعارات بلا عمل