31-أغسطس-2021

يثير علماء الأنثروبولوجيا تساؤلات عن الاتجاهات المستقبلية المحتملة (Getty)

يدرك العلماء من مختلف التخصصات، بما في ذلك الأنثروبولوجيا، أنّ حقبة جديدة تتعلق بتأثير الإنسان على الكوكب قد بدأت بالفعل. ويشير مصطلح "الأنثروبوسين Anthropocene" الذي تمت صياغته مؤخرًا، إلى أن الجنس البشري كان مسؤولاً عن زيادة انبعاثات الكربون، وارتفاع درجة الحرارة على عموم الأرض، والوصول إلى درجة مخيفة من تدمير مواطن الكائنات الحية الأخرى، بالإضافة إلى دفع عدد كبير من حيوانات الكوكب إلى هاوية الانقراض.

كتب علماء الأنثروبولوجيا من جميع أنحاء العالم دراسات مثيرة للاهتمام وذات نظرة ثاقبة حول أهمية جائحة COVID-19 في تاريخ البشرية المنظور

وعلى افتراض أنّ زائرًا غريبًا قدم من المريخ فأنه سيلاحظ وعلى الفور، أنّ البشر قد تمكنوا من التحكم والقوة فتغدو المقارنة غير متكافئة بينهم وبين شركائهم الآخرين على الأرض. ومع ذلك واعتبارًا من نيسان/أبريل 2020، بدا وأنّ الموقف الذي وجدنا أنفسنا فيه يوازن مثل هذه الملاحظات الغريبة الخيالية حين وجهت جائحة COVID-19 لسكان العالم ضربة أو اثنتين لم يحدث مثلهما على الإطلاق، على الأقل فيما يتعلق بالحجم والنطاق اللذين تنبئت بهما توقعات نيسان/أبريل 2020.

وعلى الرغم من أنّ هذا المرض لم يجعل البشر عاجزين، إلاّ أنّه وبكل تأكيد قد غير ميزان القوى. حقبة فايروس كورونا أو "الكوروناسين Coronacene"، أضحت جديرة بالاهتمام مثل حقبة "الأنثروبوسين"، ولا يمكن التنبؤ بمستقبلها. لكن علماء الأنثروبولوجيا وجودوا أنفسهم في موضع مناسب لإثارة التساؤلات عن الاتجاهات المستقبلية المحتملة؛ هل ستتلاشى الشعبوية وتصبح الحاجة إلى بنية تحتية حكومية قوية أكثر وضوحًا؟ وهل ستعود الأدلة العلمية وآراء الخبراء المختصين إلى مكانتها الطبيعة في بعض البلدان؟ هل ستفقد فوبيا الأجانب جاذبيتها في مواجهة فيروس لا يحترم الحدود ويتطلب استجابة عالمية؟ هل ستجبر البلدان على معالجة الأسباب العميقة المؤدية إلى الانقسامات السكانية على أساس العرق والجنس والعنصرية والعمر؟

الأنثروبوسين: حقبة مقترحة يعود تاريخها إلى بداية التأثير البشري الكبير على جيولوجيا الأرض والنظم الإيكولوجية

هذه التساؤلات ستجد لها آذانًا أم أنّ الأصوات التي تعبر عن نسخة حديثة من الداروينية الاجتماعية ستنتصر ويعلو صوتها؟ وسط هذه الشكوك والتساؤلات، يساهم علماء الأنثروبولوجيا بشكل ملفت على تسليط الضوء وحلحلة عدد لا يحصى من العقد البيولوجية والاجتماعية المتشابكة التي تسببت بها جائحة COVID-19.

في توضيحه لمراحل الطقوس في مقالته الشهيرة (طقوس العبور Les Rites de Passage) الصادرة عام 1909، استند الأنثروبولوجي الفرنسي أرنولد فان شينب Arnold van Gennep، إلى تاريخ الجهود السلوكية والمعمارية لعزل الشخص الغريب، ولاحظ طول وتعقيد كل مرحلة من مراحل العزل حيث يتصرف خلالها الأجانب والسكان الأصليون تجاه بعضهم البعض، لكن الإجراء الأساسي هو نفسه دائمًا سواء كان للمجموعة أو للفرد، حيث يفصل الطقس أولئك الأشخاص عن أوضاعهم السابقة ليسهل تحولهم إلى الحالة الجديدة ومن ثم يعيد بعد ذلك توحيدهم مع الجماعة في دورهم الجديد.

مر أكثر من قرن على ملاحظات أرنولد فان شينب الأنثروبولوجية حول الحدود البشرية والبيولوجية والقطيعة والاندماج في جميع صورها، التي قد تكون إعدادًا لعلماء الأنثروبولوجيا لما سيحدث أو ما تختصره العبارة الشهيرة للمصور الأمريكي الراحل روبرت مابلثورب Robert Mapplethorpe؛ "اللحظة المثالية لفهم جديد للبشر فيما يتعلق بعوالمهم الاجتماعية والبيئية".

وأمام أهمية حدث كجائحة COVID-19 في تاريخ البشرية المنظور، قامت مجلة (الأنثروبولوجيا الآن Anthropology Now)، بدعوة العلماء للمشاركة في توثيق الأشهر الأولى من تفشي المرض والتأمل فيها. وكان رد الكتاب، بدورهم، مثيرًا للإعجاب حقًا، فقد نتج عنه دراسات مثيرة للاهتمام وذات نظرة ثاقبة كتبها علماء الأنثروبولوجيا من جميع أنحاء العالم. ولكل مقال أسلوبه ورسائله الخاصة، ومع ذلك فإن جميعها لها هدف مشترك يتمثل في تقديم تأملات أنثروبولوجية حول التغيرات السريعة التطور الناتجة عن الوباء.

اللوحة للفنان الفرنسي كليمنت هيرمان

يبدأ العدد الخاص من المجلة بدراسة قدمتها Linda M. Whiteford، الأستاذة المتخصصة بالأنثروبولوجيا في جامعة جنوب فلوريدا، حيث تستند الدراسة إلى الملاحظات الشخصية والتجربة وشيئًا من المقارنة التاريخية بين انتشار الكوليرا في التسعينيات، وتلخص مجموعة من الدروس التي يمكن للأفراد والحكومات المضي قدمًا فيها، بما في ذلك إعطاء الناس "شيئًا ما يجب أن يتمتعوا به" وتجنب القرارات السياسية غير المدروسة.

وعبر دراسة مشتركة، شدد الباحثتان Aalyia Feroz Ali Sadruddin وMarcia C. Inhorn من جامعة "ييل" الأمريكية، على تأثير الجائحة على قضايا الشيخوخة، بالاعتماد على الخبرة الشخصية والإثنوجرافيا في الولايات المتحدة وكينيا وظروف ما بعد الصراع في رواندا، فقد فكر البعض في الولايات المتحدة، خلال الأيام الأولى للجائحة، أنهم على استعداد لتجريد الشيخوخة من إنسانيتها ودعوتهم إلى "التضحية" بهم، لكن علماء الأنثروبولوجيا الطبية عارضوا هذا التفكير وأكّدوا بدلاً من ذلك أنّ رعاية كبار السن جزء مهم من واجبنا كبشر، وكما يحصل في رعاية المسنين في رواندا برعاية خاصة من خلال "الأشياء الصغيرة"، والدعم الحميم اليومي، ومشاركتهم الطعام.

بدوره، يقدم Agustín Fuentes من جامعة "نوتر دام" الأمريكية منظورًا بيولوجيًا آسرًا وواقعيًا حول كل من الوباء وما تعنيه المسافة الاجتماعية (أو المسافة المادية)، حيث يلاحظ Fuentes، على سبيل المثال، أنّه بالنسبة للبشر، فإنّ "عدم كون المرء اجتماعيًا ليس خيارًا وخلال العزلة، تحدث أشياء سيئة". تشمل هذه الأشياء السيئة الأضرار الجسدية والنفسية التي يجب على القراء مراعاتها.

وفي شرح طبيعة جائحة، يؤكد هذا المنظور الاجتماعي البيولوجي أيضًا على العلاقات بين البشر والأشياء غير البشرية، ودور الإنسان في إعادة تشكيل النظم البيئية للأرض، والحاجة إلى فهم بيولوجيا الفيروس والسياق الاجتماعي للوباء.

لوحة الجائحة: الفنانة الهندية دروفي أجريا

ومن جامعة كارلتون الكندية قارنت Jen Pylypa، تأثير الوباء على الصعيدين الشخصي والمهني والعلاقة بين الصحة والعولمة وكيف اكتسب الكنديون وعيًا كبيرًا بالخصوصية الجغرافية لبلدهم، كما سلطت الضوء أيضًا على نظريات المؤامرة وهلع التسوق.

تناول العدد الخاص من المجلة أبحاثًا متنوعة كلها تركز في فهم وحل الموقف المعقد للإنسان في هذه الأوقات العصيبة

وعن المصافحة، الشكل الشائع من التحية، التي تقول النظريات الشائعة حول أصلها إنّها بدأت كبادرة سلام، حيث يثبت الإمساك بالأيدي أنك لم تكن تحمل سلاحًا ويساعد هز الأيدي على التحقق من أنّ الشخص الذي تحييه لا يخفي أي شيء في جعبته، يكتب البروفسور Bjarke Oxlund من جامعة "كوبنهاكن" الدانماركية بصيغة مغايرة، إذ يصرح أنّه لا يمكن فصل علم الأحياء عن الثقافة في دراسته للتباعد الاجتماعي والمصافحة في الوقت الذي أصبح فيه التباعد وعدم المصافحة السلاح الأول في مواجهة الجائحة.

كما تناول العدد الخاص أبحاثًا أخرى متنوعة كلها تركز في فهم وحل الموقف المعقد للإنسان في هذه الأوقات العصيبة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

8 سنوات لكسر حصار الجائحة.. ما الإجراءات القادمة في العراق؟

شروط عودة الحياة إلى طبيعتها في العراق.. متى تحصل "المناعة المجتمعية"؟