23-أكتوبر-2021

عن تغني فيروز ببغداد (Getty)

من منكم لم يسمع أغنية فيروز عن بغداد، ولم تطربه كلماتها؟ بالذات التي تقول فيها:

بغداد هل مجدٌ ورائعة ما كان منك إليهما سفرُ؟

أيام أنت الفتح ملعبه أنّا يحط جناحه المطرُ

حسنٌ، كم منكم شَعَر بأن هذه الأغنية ليست مكرَّسة للتغني ببغداد وحدها أو بالعراق فقط؟

في الحقيقة الأغنية مكوّنة من 12 بيتًا، نصفها تمامًا خالص للتغني بفيروز ثم ببيروت وعبرهما بلبنان. كاتب الأغنية كتبها على طريقة المتنبي عندما يريد أن يمدح أحدًا، فهو يمدح ذاته أولًا وبالذات، ثم يمدح الآخر ثانيًا وبالعرض في عمليَّة تأكيد للنديَّة لا تخفى على الممدوح من أجل ألا يعتقد أنَّ المتنبي مجرد لاحس قصاع. وهذا يا سادتي أكثر أساليب حماية الكرامة قوّة ووضوحًا.

أغنية فيروز تُقدّم درسًا في الكبرياء، وعبر الكبرياء هي تقدم درسًا بالوطنية، هي تقول لك: أبدًا لا تفرّط خلال دعمك أحدًا ما – سعيًا وراء هدف سامٍ أو مراعاة لمشترك يجمعكما – بكبريائك ووطنيّتك، لأنك عندها ستتحول من داعم ند، يُقدم خدمة إلى شريك ولا ينتظر ثمنًا. إلى تابع ذليل يؤدي خدمة لسيّد وينتظر أجرًا. 

هنا أنت لست داعمًا، أبدًا. بل مجرد لاعق قصاع ولاقط فتات موائد.

استمع إلى فيروز، في الأغنية ذاتها، ثم قل لي بمن كانت تتغنى وهي تقول؟

أنا جئت من لبنان من وطن.. إن لاعبته الريح تنكسرُ

صيفًا ولون الثلج حمّلني.. وأرق ما يندى به الزهرُ

يا من يواجدني وينكرني.. حذرًا وإن طريقنا الحذرُ

بيني وبينك ليس من عتب.. حُييّت تُنكرني وتعتذرُ

أنا لوعة الشعراء غربتهم.. وشجي ما نظموا وما نثرواُ

أنا حب أهل الأرض يزرعني.. وترٌ هنا ويسيل بي وترُ

هي هنا تتغنّى بلبنان ثمّ بذاتها، بل هي تستغرق بذلك نصف الأغنية كاملاً، ثم لاحظ يا صديقي أن الضمير (أنا) ورد في الأغنية ثلاث مرات، بنفس عدد المرات التي ورد بها اسم بغداد، قد تكون مصادفة، لكنها مصادفة جاءت بها كبرياء الشاعر وحرصه على أن يكون تَغَنّيه ببغداد مناصفة مع تغنيه بذاته وعبرها ببلده، وليس متجاوزًا عليهما أو مفرّطًا بهما. هو يريد أن يقول: جئتكم لأقدم دعمي، لا لأبيعكم كرامتي.

لكن مهلاً، لماذا لم يكرر الشاعر اسم بيروت أو لبنان بدلًا عن تكرار الضمير (أنا)؟ في ظني أن هذا هو الدرس، أقصد أن التأكيد على الوطنيّة لا يتم إلا عبر تأكيد الذات بالكبرياء. إذ الوطنية تتأسس على الكبرياء، ومن لا كبرياء له لا يمكن أن يكون وطنيًّا. أنت تُجلُّ وطنك لأنك تُجلُّ ذاتك، وإجلال الذات هو وقود الكبرياء. ولهذا السبب فلا يمكن لأحد أن يبيع وطنه ويعود من صفقة البيع محتفظًا بكبريائه. نعم هناك استثناءات من هذه القاعدة، تلك التي تتعلق بمن لا يميّز الحدود التي يجب أن تفصل بين الدعم والعمالة. لكنها استثناءات قليلة جدًا، فالعمالة لا تخفى إلا على مُغفّل أو ساذج.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

على الطريقة السامريَّة

خطيئة الابتهال