24-يونيو-2022
الجماعة

معضلة ابتُليَت بها الحركات الاجتماعية والسياسية (تعبيرية/فيسبوك)

"ولكن حذار من أن تموت مِيتةً مَيّتة. كثيرة هي الموتات الميتة في عصرنا: انتحار المترفين بالحداثة والمتاجرين بأنفسهم وهوياتهم في المزاد العلني والمستهلكين النسقيين والمدافعين عن قيودهم والنائمين في أوهام جلّاديهم". فتحي المسكيني، الفيلسوف والإمبراطورية

.

انتماء الفرد إلى الجماعة ليس دائمًا انتماءً يُراد منه تحقيق الصالح العام أو اكتشاف إمكانياته الخاصة. على العكس من ذلك: كلما هرب من اكتشاف كينونته أو مستطاعه الخاص، بحث عن ملاذات بديلة تؤمّن له مسارب هرب مُحصَّنّة، بحيث يمكنه الغرق في الفضول والعبودية والثرثرة إلى ما لا نهاية. ولا يوجد بديل مثالي مثل الجماعة، حيث سيمارس هناك كل المكبوتات ويعوض كل المخاوف، شريطة أن يضحي بوجوده الخاص. وبين الحين والآخر تعترضه بعض الحقائق التي تذكّره بهذا الوجود الأصيل فيعمد إلى تجاهله بمختلف الآليات الدفاعية.

يعجز كثيرون عن تحقيق ذواتهم إلا من خلال الجماعة عبر وجود زائف

إن السم الزعاف الذي يتناوله داخل الجموع في كل مرة، هو تلك الحقائق الصادمة التي تجري بالضد من هويته الجماعية؛ أنه يطالعها ويقلّب مواجعه ويضاعف من نزوعاته الحزينة. إنها جميلة ومروّعة، وصادمة وبهيّة في نفس الآن! بيد أنه يتخذ قراره الحاسم في تلك اللحظات العصيّة: يستدعي على الفور إمكانيات العبودية الكامنة فيه. فهو بين أمرين: أما عذاب الضمير وإما استدعاء منطق العبودية، فيختار الثاني ويخرس صوته الداخلي إلى الأبد.

 إنه إعلان صريح بالتنازل عن الحرية التي يفهم من خلالها وجوده الأصيل ويستبدلها بآخر زائف مثلما يعبر هيدغر. الوجود الزائف هو الشرط الأساسي للغرق في الجموع، هو الشرط الذي يحيله إلى رقم من الأرقام داخل الجموع. ما هو إلّا عدد بين تلك الأعداد الغفيرة. والحرية والتفرّد والبحث عن الوجود الأصيل يشكّل له إهانة كبرى وجرح نرجسي. ذلك أن نرجسيته وأناه ذابت في الجموع وذابت معها كل إمكانياته الخاصة، فمن العبث التفوه بالحرية لأنها تحولت إلى أكبر مشاكله التي لا بد أن يتخلص منها بأقرب وقت ممكن، والخلاص الوحيد هو الغرق في هذه الأعداد الغفيرة. حيث أصبحت هذه الأخيرة إحدى دعائم هويته الصلبة ووجوده "الأصيل" التي تغذيها دومًا وأبدًا أوهام جلاديه عبر "الخرافات السعيدة" التي تقصها عليه حسب تعبير فتحي المسكيني.

 هو عاجز عن تحقيق ذاته إلا من خلال الجماعة، لا بوصفه كائنًا اجتماعيًا يعيش مع الآخرين، وإنما بوصفه متبرعًا بوجوده الأصيل على حساب وجود زائف. لا بوصفه مخلصًا للقيم الإنسانية، وإنما بوصفه ذاتًا أعيتها مسؤولية التحرر وما يترتب عليها من غربة مٌحتَمَلَة، وقلق أصيل يهز الذات بين فترة وأخرى. فلا الغربة ولا القلق صديقان حميمان لدكتاتورية الجموع.

 إنه نوع من الاستلاب، أو التبرع بالذات مقابل موت الشعور بالمسؤولية، والهروب من رهبة الصمت ونداء الضمير والوقوع في أحضان الثرثرة اليومية. سيكون جنديًا مخلصًا ومُستَودَعًا لكل ما يمليه الآخرون. من هذه الناحية سيتعرض كل مرة إلى عدة "موتات مَيّتَة" التي ذكرها فتحي المسكيني، وسيكون على أهبة الاستعداد من أجل ميتة لا يختارها بمحض إرادته بقدر ما تختارها عبوديته الطوعية.

اقرأ/ي أيضًا:
كيف تفكر الجماعة؟

الإنسان كائن اجتماعي بطبعه بالتأكيد وهو يعيش ويتفهم وجوده ضمن هذه المعية. وعبر هذا التضايف وطبيعة الإحالات بين الذات والآخر ينكشف للأنا ما يخفيه وعيها من خلال الآخر الذي يكون لها، في كثير من الحالات، بمنزلة النور والضوء الهادي للحقيقية، تلك الحقيقة التي كانت تتوارى في عتمة الأحكام المتوارثة. فما بين الذات والآخر علاقة وجود تكتمل بالانفتاح والتبادل، لكنّ المشكل الذي نحن بصدده أوسع من ذلك بكثير ومختلف عنه كمًا ونوعًا. لأنه حين تتحول هذه المعية إلى غرق في الجموع، وهذا جوهر الموضوع، يسقط الشخص في ديكتاتورية الـ"نحن" كما يسميها أحد المفكرين، ومن ثم يفقد وجوده الخاص، ويفقد كل إمكانياته الأصيلة.

هذا الكلام لا يقصد فئة بعينها ولا يركز على جماعة بشرية دون غيرها ولا يقصد استهداف الجماعات الدينية حصرًا، فالمشكل البشري أعم من ذلك بكثير. أنها معضلة ابتُليَت بها الحركات الاجتماعية والسياسية (دينية كانت أم دنيوية) بمختلف هوياتها، أما الاستثناء هنا فلكل واحد منّا يمكنه أن يستثني نفسه من خلال دوافعه وتجربته، أي أنه يفهم طبيعة وجوده مع الآخرين والغاية منها؛ هل هو هروب من الحرية أم تحقيق للذات، فالإنسان على نفسه بصيرة وأن ألقى معاذيره.