12-نوفمبر-2021

تاريخنا هو تاريخ مثقل بالتكرار (فيسبوك)

"واهبلتكم أمهاتكم، هذا دمٌ أم ليس دم؟!". مظفر النواب

كان الإعلام المضاد لانتفاضة تشرين يسخر من شباب الانتفاضة بمفردات سوقية وبذيئة من قبيل "حسوني الوسخ"، و"اللوطيين"، و"أبناء السفارات"، و "الجوكرية" وغيرها من المفاهيم التي تلهب الخيال الرخيص. وبهذه التحريض سقط مئات الشباب بين شهيد وجريح ومُختَطَف. ومعلوم أن هذا العدد من الضحايا الذي خلّفته انتفاضة تشرين لا يسقط عادة إلا بحرب أهلية أو حرب تقليدية. ونحن نطالب الحكومة القادمة بفتح هذا الملف الحسّاس، لكي تثبت للعراقيين أن دمهم ليس رخيصًا لهذه الدرجة. ومن الضروري أن تدرك الحكومة القادمة تلك الحقيقية، التي تتجاهلها أنظمتنا السياسية عادةً، وهي أن الحكومات التي تحترم شعوبها ستطبق السماء على الأرض لو تعرض أحد مواطنيها للقتل المتعمّد، فكيف بمئات من الشباب سقطوا واحدًا تلو الآخر ليس لشيء سوى أنهم طالبوا الحكومة بوطن يجمعهم؟!

العدد من الضحايا الذي خلّفته انتفاضة تشرين لا يسقط عادة إلا بحرب أهلية أو حرب تقليدية

 كما ونطالب القضاء العراقي أن يضع هذا الملف من ضمن أولوياته لكي تتلمّس الناس روح العدالة ولكي لا تسقط أرواح شبابنا في دائرة المجهول. من تخذله العدالة فستخلق فيه إمكانيات مستقبلية ليكون مجرمًا وسيكون العدو الأول هو وطنه، وهذه الحقيقة لا تغيب عن حكمة القضاة ونفاذ بصيرتهم، وآخر ما نتمنّاه ظهور جيوش جديدة من الطابور الخامس وضحايا الظلم والنبذ الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: شباب العراق.. التعددية والاختلاف في عالم مجنون

أثار صديق عزيز إشكالية مهمة مفادها: لماذا تغدو المطالبة بدماء شهداء تشرين أكثر أهمية من غيرها مقارنة بدماء الشهداء الذين سقطوا غدرًا في مجزرة سبايكر وغيرها من ضحايا العنف الطائفي الذي أودى بحياة المئات من العراقيين؟ إنه سؤال محق. لكن المتتبع لأحداث السنين الماضية سيخرج بحصيلة هائلة من التنديدات والمناشدات التي كان يثيرها الرأي العام حول فتح ملفات تحقيق وبالخصوص مجزرة سبايكر. أما شهداء الحشد الشعبي، فكان الأمر مماثلاً من حيث التعاطف والتثمين لكل المواقف البطولية التي ترجمها الشباب المقاتل وهو يتصدى لإرهاب داعش. 

فحين نطالب بفتح ملف شهداء تشرين لا يعني التنكر لضحايا العنف الطائفي والشهداء الذين سقطوا في أرض المعركة. غير أن الأمر مختلف للغاية بين تلك الأحداث، ذلك أن شهداء الأمس لهم مؤسساتهم وممثلوهم السياسيون ويمكنهم أن يستأنفوا التحقيقات الجنائية حول المجازر التي حصلت. ومن جهة أخرى لقد ضّعف التأييد الشعبي لمثل هذه الأمور والسبب راجع إلى فساد السياسيين ومتاجرتهم بدماء الناس.

أما ملف شهداء تشرين، فلا توجد قوى مهيمنة في البرلمان تضعه في سلّم أولوياتها باستثناء الانتخابات الأخيرة التي أفرزت بعض النوّاب الذين يمثّلون تشرين. لكنّهم، على أي حال، لا ناقة لهم ولا جمل من خيرات المحاصصة، ولا يتمتعون بنفوذ واسع وليس لهم فصائل مسلحة تحميهم، وأيًا كان الأمر، لا يمكن لعشر مقاعد من حسم ملف بهذا الحجم. فإذا كان ملف سبايكر تم التعتيم عليه في ظل حكومات تتمتع بالنفوذ الكامل، فكيف بنواب جدد لا يمتلكون سوى عشرة مقاعد؟

 على أي حال، إن كان ثمّة خلل واضح، فمن المؤكد سيكون على عاتق النخب السياسية والحكومة التي عاصرت هذه المجزرة. وحين نطالب الحكومة القادمة بفتح ملف تشرين ليس لأن دمائهم تختلف عن الدماء الزاكية التي سالت من أجل الدفاع عن الوطن، وإنما لا نريد تكرار مأساة الماضي حين دُفِنَت ملفات سبايكر وغيرها في زوايا النسيان (ولا ننسى أن تاريخنا هو تاريخ مثقل بالتكرار).  من جهتي كـ"مواطن" عراقي لا يقدّم ولا يؤخر، ولا يملك شبرًا في هذا البلد، لا أفرّق بين مغدور وآخر، ولأنّي أستطيع الكتابة بحدّها الأدنى، أطالب، من خلال ما أكتب، بحقوق شهداء تشرين، وعسى أن أساهم في شيء ما. أكتب، وزملائي معي، عسى أن تكون أقلامنا فأسًا تحطّم الجليد حسب تعبير كافكا.

وعلى فكرة: لماذا لم تعد الناس بشكل عام تهتم بهذه القضايا، ولماذا ضعّف حماسها تجاه قضايا الحشد الشعبي على سبيل المثال؟ أنظر إلى ممثليهم السياسيين وستعرف الجواب بكل تأكيد. ولماذا دخلت قضية سبايكر وقضايا ضحايا الإرهاب بمختلف طوائفهم في عداد المسكوت عنه؟ أنظر إلى الحكومات السابقة ورؤساء حكوماتها، ربما ستعرف السبب الرئيسي في تحويل دماء الناس إلى مادة دسمة للتسويات السياسية.

 لكنني أظن أن طرح أسئلة من هذا النوع، أو مراجعة الذات في ثقافتنا أمر عسير للغاية، وهذه المصيبة تتوزع بعدالة فائقة بين كل فئات المجتمع العراقي سواء كانت دينية أم دنيوية، وتشتد صعوبتها لدى معتنقي الأيديوولوجيات، فمراجعة الذات من منظورهم الخاص، تعني مراجعة الحقيقة كما هي، والحقيقة في مكان آخر وليست داخل أسوار الأيديولوجيا.

وإن فشلنا في تقديم حياة كريمة لشهدائنا في حياتهم، فعلى الأقل يستريحوا في قبورهم وتبرد قلوب أمهاتهم اللاتي يعتصرهنَّ الألم والمعاناة. فلنوفر لهنَّ دموع الفرح على الأقل واستبدالها بدموع الحزن في بلد لا يعرف سوى الدم والدموع.

حين نطالب بفتح ملف شهداء تشرين لا يعني التنكر لضحايا العنف الطائفي والشهداء الذين سقطوا في أرض المعركة

 أرجو ألا تبقى جروحنا مفتوحة طيلة حياتنا وأن نفرق بين القاتل والضحية، وأرجو ألا تكون المطالبة بدماء شهداء تشرين خاضعة للمزايدات السياسية في بلد تغدو فيه المتاجرة بدماء الأبرياء من ضمن الأسس الراسخة لملوك الطوائف.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

وفاء لتشرين.. كلمات لا بدّ منها

البحث عن عالم أفضل.. تشرين أنموذجًا