يوكل الرثاء إلى الشعراء عادةً، لكن عندما يموت شاعر فلا يرثيه سوى منتجه الجمالي والإبداعي، خاصة إذا كان هذا المنتج فيه عن الموت كثيرًا. كتب الشاعر العراقي عريان السيد خلف عن الموت قصائد عديدة، رثاءً وتذمرًا وتحديًا، وفي إحدى قصائده المشهورة التي كان يشكو فيها من تفشي الموت في العراق، يقول بما معناه "الموت هو جسر اللانهاية الذي نمر عليه جميعًا".
يقول عريان السيد خلف بما معناه: "الموت هو جسر اللانهاية الذي نمر عليه جميعًا"
الجسر الذي مر عليه عريان السيد خلف أخيرًا، في 5 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، حين أعلنت وزارة الصحة العراقية عن نهاية عصره الحافل بالتناقضات والنضال وسجون الاستبداد.
مات عريان السيد خلف، ردّد الكثير من العراقيين بحزن مع صباح الأربعاء الذي مضى. كان عريان من أهم الشعراء العراقيين الذين كتبوا الشعر في لهجة عراقية وريفية مع تطعيم قصائده بالمفردات التي تسمى عراقيًا بـ"الحسجة"، وهي مفردات تأخذ بعدًا تاريخيًا مهمًا في الذاكرة العراقية المشتركة، سواء كانت الريفية أو المدنية. هو الشاعر الذي أثبت مع أبناء جيله، مظفر النواب وشاكر السماوي، أن الشعر الشعبي ليس بالضرورة أن يكون مبتذلًا أو ناطقًا باسم الاستبداد، كما حدث منذ بداية الثمانينيات بعد صعود صدام حسين إلى السلطة في العراق وتحويله الشعر الشعبي والفصيح إلى أداة إعلامية تتغنى به وبحروبه غير المحدودة.
اقرأ/ي أيضًا: فؤاد حداد.. كلمة مصر والفقراء
على ضفاف نهر الغرّاف، في محافظة ذي قار جنوب العراق، ولد السيد خلف في الأربعينيات من القرن المنصرم، ليبدأ في نشر قصائده مطلع الستينيات، الوجدانية منها والسياسية التي اشتهر بها في تلك الفترة، والتي عبر فيها أحيانًا عن انتمائه للحزب الشيوعي المعارض للسلطة منذ منتصف الستينيات، ما عرّضه أكثر من مرّة إلى الدخول لمطامير السجون، كان أشهرها سجن "نقرة السلمان" الذي سجن فيه مظفر النواب أيضًا ومجموعة من الشيوعيين، وهو واحد من أقسى السجون التابعة لسلطة البعث في العراق، للتعذيب المبالغ به، ولوجوده في منطقة جغرافية قاسية، في منطقة صحراوية تقع بين الحدود العراقية والسعودية، ولهذا يستمد عريان من تجربته في السجن الحديث عن معاناة السجين في بعض قصائده.
بعد خروجه من السجن، لم يخرج السيد خلف من العراق كما فعل أقرانه، رغم أنه حكم بالإعدام مرتين، وحافظ على مساحة بينه وبين السلطة، سواء في قصائده أو دواوينه المطبوعة، لكن هذه المسافة تقترب من الخط الأحمر الذي رسمته السلطة في بعض المواقف، فقد كتب عريان قصيدة قاسية على السلطة بعنوان "القيامة"، بعد القمع الذي قوبلت به انتفاضة آذار/مارس 1991، وهكذا في مواقف كثيرة يتنقل عريان بين القسوة والكتابة في مواضيع بعيدة عن السياسة مثل الغزل، ليبقى في العراق ولا يخرج منه.
لعريان ستة دواوين، هي: "الكمر والديرة"، و"كبل ليلة"، و"أوراق ومواسم"، و"شفاعات الوجد"، و"صياد الهموم"، و"تل الورد"، والأخير هو الأشهر بين دواوينه، لكن عمله الثقافي لم يقتصر على الشعر الشعبي العراقي، إنما هو من أبرز الصحفيين في العراق ويعمل حتى وقت متأخر في صحيفة "طريق الشعب"، التابعة للحزب الشيوعي العراقي، واستمر في الكتابة الشعرية والصحفية حتى صار أحد الرموز المعارضة والملتزمة بقضايا الناس دون الاكتراث بما تقدمه السلطة من حماية وأموال ورأس بارد، كما حصل مع الكثير من المبدعين في الأيام التي حكم بها صدام حسين العراق بقبضة حديدية.
مات عريان، وقد ترك في الذاكرة العراقية كلمات لا تنسى، قصائد وأغاني للكثير من الفنانين
اقرأ/ي أيضًا: جنازة الشعر في القاهرة
مات عريان، وقد ترك في الذاكرة العراقية كلمات لا تنسى، قصائد وأغاني للكثير من الفنانين، فؤاد سالم ورياض أحمد وقحطان العطار وسعدون جابر وكريم منصور، مات وقلبه لا يزال ينزف على وطنه كما عبر في قصيدته "قلبي على وطني وي كل سحابة تفوت"، مات وقصائده الوطنية يتغنى بها كل المهمومين بالبلاد وأزماتها وثرواتها المسروقة، يصدحون بها عند كل أزمة، مخاطبين العراق: "مثلك محب ما إلي ومثلك جرح ما يصح!".
اقرأ/ي أيضًا:
سنتان على رحيل عبد الرحمن الأبنودي.. غادر شاعر العامية "الخالد" وبقي الانقلاب