27-يونيو-2020

(سيروان باران)

الرسالة الأولى

الآن، في هذه الساعة المتأخرة من الليل، أجلسُ لأكتب رسالة إليك أيها القاتل، على طاولةٍ اعتدتُ أن أسهر عليها جاعلًا الليل مزقًا بحثًا عن الشعر، عن جملة تطفئ لهبًا أجهل مصدره ومكمنه، معيدًا في سرّي تلك الجملة الفاتنة التي قالها ريلكه يومًا "بحثتُ عنك أيها الكنز، حفرتُ في الليالي العميقة".

هذه الليلة ـ دون سائر الليالي ـ أحفر الليل العميق ولست أبحثُ عن الكنز الذي لم يره ريلكه ولم يره أحد من قبله، ولن أراه أنا ولن يراه أحد من بعدي، لأنه كنز الخفاء الذي يطلبه الجميع وهم يعلمون أنْ لا سبيل إليه. طلبه أهل الله في مناجياتهم وكان محصولهم الدهش والحيرة، وأراده أهل الدنيا في تكالبهم على الدنيا وكان الفوتُ قبل الموت ينغّص عليهم أحلامهم ويجعل جمعهم قبض ريح وهباء منثورًا، وطلبه الساهرون الحيارى من الشعراء ـ ومَنْ في حكمهم من المتأملين ـ فازدادوا تيهًا على تيههم.

كلّ هؤلاء إنما كانوا يطلبون الله، لكنْ كلٌّ بحسبه وبمقدار همّته وعلى قدر صفاء قلبه، واتساع رؤيته ونقاء سريرته.

محبوبُ كل امرئٍ هو ما يسهرُ من أجله.

لكني، أسهرُ هذه الليلة من أجل مَنْ لا أحبّ، من أجلك أنتَ، يا قاتلَ الأطفال، يا صانع اليتامى والأرامل وجاعلَ الأمهات ثواكل. من أجلك أريد أن أقطع هذه الليلة والليالي التي تليها لأتحدث إليك، لأخاطبك، لأني خاطبت المجهول الغامض طويلًا، في الشعر والكتابة والتأمل والمناجاة والبكاء، وأريد اليوم أن أخاطب المعلوم الذي لفرط انكشافه أمام نفسه قويّ مقتدرٌ قادرٌ على أن يسلب حياة الناس، أن يقتلهم، أن ينتزع الحيَّ فيهم ويتركهم أشلاء، جثثًا بملابس مهترئة تسيل منها الدماء على الأرصفة.

منذ زمن بعيد أردتُ أن ألتقيك هنا، رغبتُ عميقًا في مناجاتك بدلًا من مناجاتي الله، وددتُ أنْ أنشئ لك خطابًا بدلًا من توجّهي بالدعاء للغيب الذي يفيض سحرًا وشعرًا.  كلاكما غامض على نحوٍ ما، كلاكما، أنت والله، محصّنٌ ضدّ الفهم لأن الاقتراب منكما ينذر ببلبلة الأفكار. الله بجعله بين اسمه ونفسه خُلفًا لا سبيل إلى تلافيه وهو شديد المحال، لا يقع عليه شيءٌ إلا كان مردودًا إلى نفسه لا إلى الله، إذ "كل ما توهمتموه مردود إليكم مخلوق منكم".

هذه قصتي الحزينة مع الله، أما قصتي معك فهي لا تقلّ مأساوية عنها وإنْ كانتْ مختلطة باحتقار واشمئزاز لا أستطيع تبديدهما، فأنتَ أيضًا بعيد المنال عن فهمي، صعبٌ مستعصٍ على الإدراك، كيف يمكن لإنسانٍ أن يحظى بهذا الحقّ، حقّ أن يسلب الحياة من إنسان آخر؟ مَن أعطاه هذه القدرة، مَن سلّطه على الروح، مَنْ منحه هذا التخويل الذي يجعله في مقابل الله، الضدّ التامّ للخالق، يجلس قويًا في الضفة الأخرى من الوجود ثم يستولي على الإنسان، أجمل أعمال الله، ويتلفه.

أردتُ دومًا أن ألتقيك لأسألك: بأية سلطةٍ تفعل هذا؟ لكني كنت أؤجّل هذا اللقاء، أرجئ التفكير فيه لأني ظننتُ أن وقتًا أتفرّغ فيه للشعر وللقراءة والتأمل هو الوقت الذي خُلقتُ من أجل إنفاقه في هذه الحياة، وظننتُ أن التفكير بك وبما تفعله تدنيسٌ لروحي، وأن الانشغال بك من شأنه أن يعكّر الوجود وأن يجرّني إلى التسافل الذي لا يعود معه الشعرُ ممكنًا ولا التأمل. تخيّلتُك دومًا في قاع هاويةٍ مظلمة ولم أرد أن أتطلّع فيها.

لكنْ ها هي روحي دُنّستْ وها هو وجودي كلّه اهتزّ ولم يعد للشعر مستقرٌّ فيَّ وأنا أشاهد هذه الأشلاء التي صنعتها يداك، أشلاء آدميين شبّانٍ ملقاة على الأرصفة تنزّ من رؤوسهم الدماء على أرصفة مغبرّة. لكثرة ما طالعتُ صورهم ورأيت الأفلام التي يلفظون فيها أنفاسهم الأخيرة بتُّ الآن في شكٍّ من تأريخي كلّه، تزعزعتْ ثقتي لا بالشعر والكتابة وحدهما، بل بكل انشغالاتي طوال عمري، أني لو أنفقت هذه الليالي في التفكير بك أيها القاتل، لو حاولتُ فهمك لكنتُ ربما وقعتُ على سرّك الدفين، لكنتُ عرفتُ لمَ ومن أجل ماذا وبأيّ سلطانٍ تقتل الناس. اكتشاف كهذا هو عندي الآن أجدى من كلّ الكتب الشعرية التي أصدرتها وهي خلاصة سهرٍ متصل منذ أربعين سنة. لكنتُ عرفتك بدلًا من مطاردة الشعر الذي لا يفضي إلا إلى التيه، أو مطاردة الله الذي سدّ بوجهي الآفاق ومنع عليّ حتى أن أقول "أنا" إذ (لا يصحّ على الحقيقة لأحدٍ أن يقول "أنا" إلا الله). ربما كانت معرفتك والتعرّف إليك أنفع لي من هذا التيه وتلك الحيرة اللذين خرّبا حياتي.

مَنْ أنت؟ ما أنت؟

أريد أن أعرفك.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

نسهرُ لأنكم نائمون

رسالة في أن الوجود خير محض على كل حال

دلالات: