20-مارس-2019

رحلة لجمع الكمأ في بادية السماوة (تويتر)

بعيدًا عن صخب بغداد، تبدأ الرحلة بقطع أكثر من 278 كيلومترًا جنوبًا، نحو السماوة، وباديتها بمحاذاة قوافل الجِمال حيث قضاء السلمان، الذي كان في وقت ما، موطن لأقسى سجون صدام حسين، ثم يصحبك مرشد بدوي لساعتين أخريين في السهول الصحراوية المجهولة، بالقرب من الحدود العراقية – السعودية، لاكتشاف سر الكمأ بين خطر الموت وبعض الخرافات حوله.

تبدأ الرحلة للبحث عن الكمأ بقطع مئات الكيلومترات نحو صحراء العراق الواسعة، جنوبًا حيث بادية السماواة، أو شمالًا وغربًا حيث صلاح الدين والأنبار

الرحلة التي كشفت تفاصيلها صحيفة لوس أنجلوس تايمز، بدأت للتو، حيث المساحات التي تصفعها الرياح الصاخبة وسط درجات حرارة شبه متجمدة. يمكنك التجول ببطء في المناظر الطبيعية الجرداء، والسكّين في متناول اليد أثناء مسيرك على الأرض لساعات بحثًا عن علامات الطريق الغامضة تقريبًا، والتي تشير إلى الهدف.

بادية السماوة

عن ماذا تبحث؟

نباتٌ ذو مظهر مشؤوم يعرف باسم كمأ الصحراء، حساس، خفيف ومرضي، ينبت في منطقة الكمأ الصحراوية، التي تمتلء سحرًا مشهديًا.

ونظرًا لكون الطعام العراقي يحتوي على كل شيء يدفعك إلى الانبهار - مثل الكاهي والقيمر، فقد تعتقد أن الكمأ سيكون غير مناسب لمثل هذا المطبخ، لكنك مخطئ، فبالنسبة لأولئك الذين يجمعون الكمأ الصحراوي - والكثيرون يفعلون ذلك، وأحيانًا يعرضون أنفسهم للخطر - فإن العثور عليه لا يعني شيئًا أقل من البحث عن الكنز، الذي يمزج في الوقت ذاته بين الخرافات والخطر.

يتطلب ظهور الكمأ، وجود الماء وبكمية لا بأس بها منه، حيث يتوقف الأمر على سقوط أول موجة من الأمطار، حيث يشترط أن يتحقق ذلك في تشرين الأول/أكتوبر – تشرين الثاني/نوفمبر وصولًا إلى وقت متأخر من شهر كانون الأول/ديسمبر، حيث يمكن أن يبشر بحصاد جيد. يقول نوفل صالح، وهو بدوي يبلغ من العمر 35 عامًا، إن "أي مطر يهطل بعد هذه التوقيتات، فذلك يعني أن الآوان قد فات على ظهور الكمأ".

ينبت الكمأ بأحجام مختلفة

صالح، الذي كان يتجول منذ فترة طويلة جنوب العراق بحثًا عن الكمأ، المعروف ايضًا بأسم "الكمأة" في سوريا، جلس في يومٍ واحد في فصل الشتاء، وقف على مؤخرة شاحنته، وجاب ببصره الأفق، ثم أشار إلى ما يبدو أنها بقعة عشوائية على الطريق، إشارة لبدء الرحلة في الصحراء.

قاد صالح الشاحنة فوق التضاريس القاسية، مشيرًا إلى ما يبدو وكأنه منطقة لا يمكن تمييزها من باقي الأراضي بسبب تشابهها مع قريناتها، ومع ذلك، فإنه يردد اسمًا بدويًا لكل أرض، وهو يتجه أكثر فأكثر نحو الحدود السعودية. يتذكر صالح جيدًا سلسلة مفصلة من مواسم الكمأ، الجيدة والسيئة، والتي تمتد منذ عام 2004، "هذا العام سقطت الأمطار الأولى في 20 أكتوبر، جيد جدًا". قال صالح.

كيف ينبت الكمأ؟

أما العواصف، فهي المكان الذي تأتي منه الخرافات، فيقال إن الرعد والبرق يعززان "خيمياء" الكمأة، وهي نوع من الفطريات تنتشر في جميع أنحاء المناطق القاحلة وشبه القاحلة حول الشرق الأوسط والمناطق المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط.

أكثر أنواع الكمأ شيوعًا هنا هو ترفيزيا، وهي مجموعة متنوعة من الأسطح البيضاء التي تبدو مثل الصخور، التي تظهر من الرمال المسطحة وسهول الحصى في جنوب العراق. يقول البعض إن العواصف الرعدية تكسر سطح الأرض مثل قشر البيض، مما يتيح للجراثيم المجهرية أن تنتشر تحت الرمال، وتزدهر.

ينبت الكمأ وفق التفسير العلمي من تولد مركبات نيتروجينية قابلة للذوبان في الماء نتيجة العواصف الرعدية بالتزامن مع الأمطار التي تشجع النمو

ومع ذلك، يقدم العلم تفسيرًا أقل خيالًا، مؤكدًا أن العواصف الرعدية تولد مركبات نيتروجينية قابلة للذوبان في الماء، تسقط مع المطر وتشجع النمو. فيما يعد التوقيت ضروري أيضًا للحصاد، فهذا الموسم يمر بسرعة، ويستمر ثلاثة أشهر فقط في الأراضي القاحلة في العراق وسوريا.

يقول صالح،: "بحلول أواخر آذار/مارس، يصبح الأمر مثير للاشمئزاز"، متذكرًا عمليات بحث سابقة، "حيث في جوف الكمأ ظهرت الكثير من الديدان، ورائحته مثل جثة متعفنة".

يستمر صالح في مسح المشهد الذي لا يتغير على ما يبدو، ثم يعلن فجأة أن الوقت قد حان للتوقف، فيما يكشف عن طريقة معرفة أن المكان الذي ستجمع منه الكمأ لا تتربص به حيوانات كالكلاب أو الخنازير، والتي يعتبرها الإسلام "نجسة"، من خلال ملاحظات هي: ظهور تشققات في التربة، تدل على أن الكمأ ينتشر في السطح. والثانية ظهور عشب معين، يطلق عليه البدو اسم نبات "عنيد"، فإذا ما رأوا ذلك فإن الكمأ قريب.

يؤكد البحث أيضًا هذه الملاحظة، حيث توصلت الدراسات إلى أن الكمأ الصحراوي، مثل معظم أمثاله، يشكل علاقات تكافلية مع بعض النباتات ويمكن العثور عليه بالقرب من جذوره. لكن لسوء الحظ يبدو "عنيد" متطابقًا مع بقية الحشائش لعين غبر المختص بجمع الكمأ.

لكن، لا شيء قد يبطئ أسعد الحيالي، الذي يميل ضد الريح، ويرتدي ثيابه، وهو شاب يبلغ من العمر 23 عامًا كان ضمن الرحلة، حيث تجده ينقض على بقعة واعدة، ثم يتحول في مكان آخر، وبمجرد أن تتلاقى جميع القرائن، يجلس على الموقع المرتقب، يلوح بسكين مطبخ طويل لقطع دائرة سريعة حول المكان. يحرك التراب من السطح بكلتا يديه للكشف عن الخطوط العريضة للكمأ. ويغرز سكينه بلطف أسفل الكمأة، ويخرجها. يقوم بفحص سريع، ثم ينفض الكمأة قبل وضعها في كيس من القماش، ويواصل بحثه.

بين نيران الألغام والإرهاب

لكن عمليات الحصاد تلك تواجه خطرًا كبيرًا، ففي الوقت الذي يسعى فيه جامعو الكمأ نحو أجود الأنواع ترتفع التهديدات ضدهم. إحدى مناطق الخطر هذه هي الحدود العراقية - السعودية، حيث يقول صالح، إن الحراس العراقيين المتحمسين أطلقوا النار على شخص ما اعتقدوا أنه مهرب، لكنه كان في الحقيقة من الباحثين عن الكمأة في كانون الأول/ديسمبر، مضيفًا: "الكمأ هناك ضخم، بحجم الرمان، لكن الحراس فقط هم الذين يستفيدون منه الآن".

اقرأ/ي أيضًا: عمليات الأنبار توجه بمنع خروج المواطنين إلى الصحراء لجمع الكمأ

إلى الجنوب الشرقي قد تصادف الألغام الأرضية، من بقايا الحرب مع إيران. أما في محافظة الأنبار غربًا، موطن الحمرة، التكرار الأصغر للكمأة الصحراوية المعروفة باسم "hargi"، كان على صائدي الكمأة مواجهة تهديد "داعش".

يواجه جامعو الكمأ مخاطر وتهديدات حقيقية بالموت نتيجة رصاص حرس الحدود أو وجود تنظيم "داعش"، فضلًا عن ألغام الحرب مع إيران التي لا تزال منتشرة

تشييع جثامين ضحايا قتلهم "داعش" أثناء البحث عن الكمأ

لكن بالنسبة للكثيرين، فإن الخطر يستحق كل هذا العناء، خاصة إذا كانت أوضاع السوق تقف إلى جانبهم. ففي أسواق مخصصة تمتد من السلمان في المثنى إلى بغداد، يصل الصيادون والتجار قبل الفجر ليطلعوا على أكوام من الكمأ المتراصة على البطانيات والسلال الممتلئة به على جانبي الشارع.

تجارة رابحة

تبدأ بعدها مزادات سريعة، حيث تصل أسعار الكمأ ذات الجودة المنخفضة إلى 8 آلاف دينار للكيلوغرام، وصولاً إلى أكثر من 10 دولارات لاقل من نصف كيلوغرام في بغداد، وحوالي 25 دولارًا عند التصدير.

ومثل العديد من الآخرين هنا، سافر الحبالي مع عائلته من محافظات أخرى، أقاموا الخيام لأسابيع متتالية في جهد جماعي للحصول على الكمأ، سعيًا لتحقيق أرباح جيدة بعد أن تمكنت واحدة من العوائل من بيع الكمأ بقيمة 11 ألف دولار في ثلاثة أشهر - وهو مبلغ جيد جدًا.

جانب من مزادات بيع الكمأ 

إذا وجدت الكمأة وكتبت لك النجاة في الحصاد، فهذا لا يعني أنك قد نجحت فما زالت مهمة تنظيفها لم تبدأ، حيث هناك نظريات لا حدود لها، وكثيرٌ ما تكون متناقضة، فيما يتعلق بأفضل طريقة لتنظيف الكمأ من الرمال، فلا أحد سيثني عليك إذا ما أحسوا بالرمال تتكسر تحت أسنانهم.

الكمأ والطاقة الجنسية!

تتمثل إحدى الطرق في نقع الكمأ في الماء البارد لإخراج الرمال من الشقوق، ثم استخدام فرشاة الأسنان للتخلص من كل الرمل المتبقي فيه. وبمجرد أن تصبح مياه الشطف صافية وتنظف الكمأ (نسبيًا)، يمكنك أخيرًا البدء في تحضير طعامك.

تشكل الكمأة الغنية بالبروتين بديلاً جيدًا للحوم. وقد أشارت الدراسات إلى أنها عالية في مضادات الأكسدة ولها خصائص مضادة للالتهابات.

تحقق تجارة الكمأ أرباحًا جيدة في السوق العراقية وخارجها، وسط الكثير من الشهادات حول دورها في رفع القدرة الجنسية للرجال والتي يدحضها العلم

عدد لا يحصى من المواقع، لا محالة، يشرح تأثير الكمأة الإيجابي على الرغبة الجنسية للذكور. لكن، لسوء الحظ، لا يتفق العلم، حيث تدحض عدد من الأوراق العلمية مثل هذه النظريات التي يتمناها الكثير.

هناك عدة طرق لتنظيف وتحضير الكمأ

في إحدى الأمسيات في بغداد، يقوم الطاهي صالح العبيدي، الرجل الضخم الذي لعب ذات مرة في الفريق الوطني العراقي لكرة السلة، بإعداد ثلاثة أطباق من الكمأة. يتضمن الطبق الأول: قلي الكمأ بالبصل والكركم، ويقدم مقرمشًا، أما الثاني: فيغرس الكمأ في سيخ حديدي، ويقتطع، بالتناوب مع الدهون الحيوانية "اللّية"، فيما يعد الثالث بغليان الكمأ، ثم استخدام المياه ذات اللون الأصفر لغلي الأرز وإغراقه بنكهة لذيذة، ليكافئ هذا الجهد - من المسيرة الطويلة إلى البحث عن الكمأ، إلى التنظيف الشاق - بوجبة خفيفة، حيث تثبت الكمأ نفسها كمشروم أكثر جوهرية، مع مضغ القليل من الرمل.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حقوق الإنسان تعلّق على اختطاف 19 مدنيًا في الأنبار وتكشف عدد المعدومين فيهم

ماهو مصير الذين اختطفهم "داعش" في النخيب؟