18-يناير-2021

السلطة السياسية لا تسمح بظهور تنظيم تقدمي (فيسبوك)

على مدى أكثر من عام تابعت سير الأحداث الاحتجاجية بصفتي مواطن يبحث عن حلول عملية. وهذه الأخيرة هي أحوج ما يتمناه العراقيون. غير أن سير الأحداث يجري بالضد من هذه الأمنيات، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه، وليس كل ما نحلم به في الميديا يتجلى أمامنا في الواقع! فكانت النتائج مروّعة كما لو أن هناك ثورة عارمة لتصفية الحساب مع العراقيين راح ضحيتها عشرات الشبّان اليافعين. ومجمل الكتابات التي انشغلتُ بها هي كيفية إدارة الأزمة، أو بتعبير أدق كيفية توظيف هذه الحشود الشبابية الغفيرة لاستثمار الحدث الاحتجاجي. وهل ثمة استثمار أكثر واقعية من الممارسة السياسية؟ وهل ثمة جدوى أكثر عقلانية من الشروع في تنظيم سياسي يحفظ حقوق الأجيال اللاحقة من التلف والضياع مثلما أضاعتها سلطة الاستبداد؟ وهل ثمّة عقلانية وواقعية من تجاوز العراقي لرهاب التنظيم السياسي في ظل ظروف معقدة للغاية؟

المشكلة ليست في جدوى التنظيم من عدمه، والمشكلة ليست في إمكانية وجود تنظيم سياسي في ظل بيئة سياسية مضطربة وتتسم بالقسوة تجاه أبنائها. مع اعترافنا بهذه التحديات، غير أن المشكلة هنا وبالذات: الرهاب من أي فكرة تنظيم، الرهاب من أي فكرة ممارسة سياسية، الرهاب من أي تجمع ينظم فيه العراقيون أنفسهم ويتذوقون طعم العمل الجماعي. والرهاب الأكبر: روح الشيخ التي تسري فينا سريان النار في الهشيم! هذه الأنواع المتعددة من الرهابات أفرزت لنا جيلًا كافرًا وعدميًا بكل ما يمت للسياسة بصلة؛ جيل يتمتع بإرادة حديدية نحو الموت، غير أن هذه الإرادة تتلاشى في الفعل السياسي المُنَظّم ويختفي بريقها على الإطلاق. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة تبريرات عدة لفشلنا في تنظيم أنفسنا، وأعتقد أن من أهم هذه التبريرات، هي أن البيئة السياسية والاجتماعية ليست متهيئة لاحتضان مثل هذه الثقافة المتقدمة، وأن السلطة السياسية ستستخدم كل أشكال القوة المفرطة للإطاحة بأي محاولة لتنظيم سياسي. والسؤال هنا: هل كان الحدث الاحتجاجي حركة راديكالية؟ بمعنى آخر: هل كان هذا الحراك ينوي قلب نظام الحكم؟! والجواب يأتي بالسلب على الإطلاق، أي لم يكن في حسبان الشباب هذه النية، بل أن الأمر مستبعد إلى أبعد حد، فضلًا عن الظروف والإمكانيات والغايات التي كانت تتمحور في هذه الحقيقة، وهي المطالبة بالحقوق ووطن آمن يحفظ كرامة العراقيين. فإذا كانت هذه التبريرات حاضرة ومعلومة سلفًا ما الدافع من كل هذه الأحداث المريعة إذن؟ بمعنى، إن لم يكن بالنيّة تغييرًا جذريًا من خلال قوة الجماهير، فمن المنطقي أن يتبلور هذا الحدث الاحتجاجي إلى فعل مُنَظَّم. لكن حتى التغييرات الجذرية تحتاج قوة تنظيمية صارمة. فبكلا الأمرين سنخرج بنتيجة واحدة: الموت المٌنَظَّم لا غير!

 لكن، فلنعترف بهذه الحقيقة: إن السلطة السياسية لا تسمح، بشكل وبآخر، من ظهور تنظيم تقدمي يتخذ من المواطنة والديمقراطية والحرية، بشكلها الحقيقي وليس المزيف، منهجًا له في عمله السياسي لكي يقنع الجماهير ويكتسب حاضنة شعبية. وحينما أقول إن "السلطة السياسية لا تسمح"، ليس بالضرورة أن يحدث هذا بطريقة مباشرة وفجّة وغبية، وإنما يحدث بالطريقة المعتادة والمحفوظة، وهي التخوين والمؤامرة على الأمة العربية أو الدين أو المذهب وهكذا دواليك. لكن يبدو أن كل هذه الأسئلة والأجوبة والتبريرات، وبالرغم من العثور على مصاديقها في الواقع عمومًا، إلا أنها تخاتل وتناور وتلتف على أصل المشكلة، وتحاول إخفاء السؤال التالي: لماذا يفشل العراقيون في كل مرة من تنظيم أنفسهم؟ بالرغم من التاريخ المرعب من القمع وما رافقه من تحطيم لفكرة المؤسسة في أذهان العراقيين. لكن ثمة حقيقة ذكرها الباحث القدير حنا بطاطو، في كتابه المهم (العراق) وقد ذكرتها في مقالة سابقة، وهي كالتالي: نفور العراقيين غريزيًا من العمل المؤسساتي. هذه الحقيقة لا تستبعد الأسباب الأخرى، لكنها، ومن منظور شخصي، تشكل جوهر الإشكالية السياسية في العراق. ويبدو أن الأجيال الجديدة تلقّفتها، بفعل التوارث، وأضحت ذخيرتها الأساسية في النظر للآخر(الصديق والخصم على حد سواء!). هذه الحقيقة أنتجت ثقافة ما يمكن أن أسميه: الرهاب والتبرير. ربما علينا أن نبدأ من هذه النقطة الإشكالية وجعلها نموذجًا تفسيريًا لوضعنا السياسي والاجتماعي. فلهذا النموذج التفسيري حسناته، ومنها، أنه سيخرج من كل واحد منّا شيخ كبير في ذاكرتنا يتكاثر كما الفطر ويغذي أوهامه في كل مرة من رهابنا وتبريرنا المستمر ما يقودنا بالتالي إلى الموت المُنَظَّم.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

شجعان التحرير.. بين شبح الاستبداد وقلق التنظيم

التنظيم السياسي.. وقاية من الدكتاتورية المضادة