11-نوفمبر-2019

هناك تنظيمات شبابية مصغرة تعمل بهدوء على تنظيم ما يمكن تنظيمه في ساحة التحرير (Getty)

خلت التظاهرات التي انطلقت مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر في العراق من القيادة واللجان التنسيقية، وحافظت على ذلك لفترة طويلة، الأمر الذي انعكس إيجابا وسلبًا على التظاهرات في آن معًا، فالخطوات غير المخطط لها مسبقًا، بحسب رؤية متظاهرين، ساهمت بشكل فعّال على عدم توقع الحكومة للخطوة القادمة التي ستحدث في الشارع ما يسبب الضغط الكبير على السلطة، وفي نفس الوقت فأن هذه الخطوات تشتت الجهود والأعداد، فقد فتحت أكثر من جبهة تواجد فيها المتظاهرون غير ساحة التحرير، ومع ذلك كانت هنالك تنظيمات شبابية مصغرة تعمل بهدوء على تنظيم ما يمكن تنظيمه في ساحات التظاهر، فضلًا عن الدور الكبير للشباب بدعم المتظاهرين وتوفير الاحتياجات الأساسية وعدم ترك الساحة خالية من ضروريات استمرار الحركة الاحتجاجية، فقد كان للشباب دور آخر يفوق بأهميته الدور اللوجستي، وهو الدور الفكري.

كانت هنالك تنظيمات شبابية مصغرة تعمل بهدوء على تنظيم ما يمكن تنظيمه في ساحات التظاهر، فضلًا عن الدور الكبير للشباب بتوفير الاحتياجات الأساسية وعدم ترك ساحة التحرير خالية

في بادئ الأمر كان الدور الفكري يقتصر على جلسات نقاشية بين شباب مثقفين وإعلاميين ومحامين وناشطين وغيرهم، يتم الحديث فيها حول الخطوات القادمة والتوقعات والرؤى المستقبلية والمطالب التي تتناسب مع الدستور، فضلًا عن اقتراح الهتافات والجمل التي يجب أن تًكتب على اللافتات والسعي لتوحيد الخطاب جهد الإمكان، لكن سرعان ما أخذ هذا الدور بالتوسع، فقد كبرت قاعدة الشباب وشكلوا ما يشبه اللجان التنسيقية التي تعمل على تنظيم التظاهرات، وتنظم وجود المتظاهرين في المطعم التركي، وترتيب نقل الاحتياجات اللوجستية بشكل منظم ومتساوي لجميع أماكن تواجد المتظاهرين وعدم التركيز على الموجودين في ساحة التحرير فقط، مع تجنب تبني التظاهرات أو محاولة طرح انفسهم كقادة لها.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي

أحمد علي، أحد المتظاهرين في ساحة التحرير، رأى أن الدور الفكري للشباب ساهم بشكل فعّال في زيادة زخم التظاهرات والمحافظة على مستواها الواعي، حيث قال لـ"ألترا عراق"، إنه "في أي تجمع بشري يسيطر العقل الجمعي على الموجودين، فترى موجات بشرية تتجه اتجاهات معينة بمجرد تحفيزها بهتاف معيّن أو ما شابه، وهذا التوجه لا يخلو من السلبيات إذا كان موجه هذه الجموع جاهلًا أو اندفاعيًا".

أضاف علي أن "الشباب في هذه الحالة كانوا يحاولون منع أية تصرفات غير مسؤولة قد تؤدي إلى صدامات مع القوات الأمنية، أو حرف سلمية التظاهرات، أو خلق انقسامات بين صفوف المتظاهرين، عن طريق هتافات سلمية مضادة تعمل على تهدئة الوضع والحفاظ على سلامة المتظاهرين وغاية الاحتجاج".

وعلى نفس المنوال، سار الكثير من المحامين الموجودين في ساحة التحرير، حيث عملوا على تشذيب المطالب العفوية وتوعية المتظاهرين لطرحها بطريقة دستورية والابتعاد عن المطالب ذات السقوف العالية التي لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع.

فؤاد العايدي، محام من محافظة واسط، تظاهر في ساحة التحرير منذ يوم 25 تشرين الأول/أكتوبر، تحدث لـ"ألترا عراق"، عن دوره ودور زملائه المحامين في الساحة، وبيّن أن "شريحة المحامين تعتبر حلقة الوصل بين الشارع والسلطة القضائية، فهم أعلم الشرائح بالدستور وتفاصيله وطرق تعديله أو تغيير بعض تفاصيله"، لافتًا إلى أنه "انطلاقًا من ذلك عمل الكثير من المحامين على تضييق الفجوة بين الدستور وفهم الشارع له خلال أيام التظاهر، للمساعدة برفع الوعي الشعبي من الناحية القانونية".

تابع أن "إقبال الناس بمختلف طبقاتهم ومستوياتهم وأعمارهم على تعلم أكثر المعلومات القانونية الممكنة وهو أمر لافت، فأصبح المتظاهر صاحب الـ15 عامًا يتحدث مع زميله المطالب بتحويل النظام إلى رئاسي بأن: هذا المطلب غير دستوري الآن، ويحتاج إلى عدة خطوات لتنفيذه"، مضيفًا أن "الجلسات النقاشية في الخيم المتواجدة في ساحة التحرير ومحيطها عملت بشكل كبير على رفع الوعي لدى الكثير من الأشخاص".

اقرأ/ي أيضًا: العقل الجمعي يقدّم الدروس للمثقف العراقي!

وفي خطوة هي الأولى من نوعها في العراق، أصدر مجموعة من الإعلاميين والشباب جريدة "تكتك"، وبجهود ذاتية، وهي جريدة تصدر عن ساحة التحرير، تتناول أبرز الأخبار والتحليلات والمقالات والقصائد والرسومات والصور الخاصة بالتظاهرات. إذ أن تسميتها الملفتة للانتباه، والنابعة من وحي التظاهر صنعت لها شعبية كبيرة لدى المتظاهرين، ولم يقتصر توزيعها داخل الساحة فقط، حيث انتشرت خارجها لعدة مناطق في العاصمة بغداد.

شكّل الشباب خلية عمل كبيرة ساهمت بشكل كبير من تحديد مسار التظاهرات السلمي، والحفاظ على مستواها الواعي، حيث عمل كل واحد منهم بحسب موقعه، والكثير منهم لا يعرفون بعضهم وربما لم يلتقوا إلا مرة واحدة، لكن جرى العمل كفريق واحد وكبير، فأصحاب المطابع ساهموا متطوعين بطباعة اللافتات وغيرها، والإعلاميون عملوا على محاربة الإشاعات جهد الإمكان وتغطية الأخبار وإيصالها لإقصى نقطة يمكن إيصالها عند فصل شبكة الإنترنت.

شكّل الشباب خلية عمل كبيرة ساهمت بشكل كبير من تحديد مسار التظاهرات السلمي، والحفاظ على مستواها الواعي حيث عمل كل واحد منهم بحسب موقعه

بينما ساهم النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بالتحشيد وحث الناس على التظاهر ومؤازرة المتظاهرين المرابطين في ساحات التظاهر، كما خلق الشباب المتواجدون أغلب أوقاتهم في ساحة التحرير، نوعية من التوازن، حيث طغت على أيام التظاهر الأولى صبغة الاحتفالات المفرطة التي أخرجت التظاهرات عن إطارها الساخط تجاه السلطة بشكل كبير، وحدث العكس تمامًا بعد الدعوة عن الابتعاد عن الأغاني الخفيفة، فأصبحت الساحة أشبه بمأتم عزاء يتم فيه تشغيل اللطميات والنعي والأناشيد البكائية الحزينة، وهذا ما دفع الشباب إلى محاولة الموازنة بين هذا التوجه وذاك، إلى أن أصبحت الساحة لا تخلو من جميع التوجهات، فهنالك من يرقص قرب مكبرات الصوت التي تشغل الأغاني الوطنية، وهناك من يقرأ القرآن على أرواح شهداء التظاهرات، وهنالك من يهتف هتافات غاضبة وجدية، وهنالك من يهتف بطريقة تهكمية طريفة.

عند النظر عن بُعد لجميع الأحداث التي جرت في ساحة التحرير منذ 25 تشرين الأول/أكتوبر، يمكن إيجاد المجتمع العراقي بكل توجهاته ورغباته وطموحاته وجديته وفكاهته، خلال هذه الأيام القليلة شكلت ساحة التحرير وشبابها مجتمعًا مصغرًا يمكن اعتباره، بحسب أحد النشطاء الموجودين في خيم الاعتصام، نموذجًا لتلاقي الأجيال بين ما قبل 2003 وما بعد 2003، الأمر الذي صار محفزًا للأجيال السابقة ودافعًا وطنيًا كبيرًا للأجيال الجديدة.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

التغطية تحت أزيز الرصاص.. كيف وثق الصحفيون احتجاجات تشرين؟

تكتك.. جريدة شبابية جديدة من ساحة "التحرير"