02-سبتمبر-2019

هناك تقارب بين رواية صح النوم ليحيى حقي ورواية ساعة بغداد لشهد الراوي (رائد المرعبي)

ثمة علاقة طردية بين النقد والأدب، فإن تطور أحدهما يؤدي إلى تطور الآخر، والعكس صحيح.. هذه العلاقة الأزلية شهدت خلال الأعوام الأخيرة تناشزًا واضحًا، لا سيما بعد عام 2003، إذ برزت في الساحة الأدبية العراقية العديد من الأسماء في مختلف حقول الأدب، كالرواية والنص المسرحي والشعر والقصة، دون أي استحقاق، وبقيت هذه الأسماء محض أسماء لا أكثر، فأعمالهم يرشح منها الزيف والابتذال، دون أي موقف يسجل في جانب النقد، فأغلب النقاد اليوم أصبحوا صدى صوت لما ينشر من أعمال أقل ما يقال عنها بأنها "رديئة".

 برزت في العراق ظاهرة (الكاتب الشبح) أو (الخفي) وهو الذي يبيع قلمه مقابل مردود مادي شريطة أن لا يظهر اسمه

هذه الأسماء التي برزت وغطت الساحة الأدبية لا تكمن خطورتها في خروج أو ربما نسيان أصحاب الأعمال العظيمة، وجعلهم يقبعون في الصف الخلفي، ليحل محلهم أنصاف الكتاب، بل إن الخطورة الحقيقية تكمن في تدمير الذائقة الأدبية وإعطابها لدى العراقيين، أمام هذا الفائض من الدواوين والروايات والمجموعات القصصية التي تثقل الذائقة بشكل لا يطاق، ممّا ولّد بروز دعوات كثيرة للمقاطعة وأخرى للمراجعة وسط كم هائل من المنتفعين من هذا الوضع، أولئك الذين يبرّرون ما يجري بقولهم: إذا كان كل شيء قد أصبح رديئًا في العراق لماذا لا يكون الأدب هو الآخر رديئًا؟

اقرأ/ي أيضًا: كيف ساهمت دور النشر بصناعة "كُتاب الرداءة"؟

وفي ظل تشكّل جو ثقافي لا يمت بصلة إلى الثقافة الحقيقية برزت عدة ظواهر أخذت تتضح ملامحها مؤخرًا منها (الكاتب الشبح) أو (الخفي) وهو الذي يبيع قلمه مقابل مردود مادي شرط أن لا يظهر اسمه، والناقد المأجور، وهو الذي يكتب تحت إمرة صاحب دار النشر أو أحيانًا تحت إمرة الكاتب، خوفًا من أن تصبح نتاجاتهم مادة دسمة لفئران المخازن فيرفع من هذا، وينزل من ذاك، استجابة لما يُملى عليه، وأيضًا مقابل مردود مادي، وأحيانًا لغرض المجاملات وتوطيد العلاقات. وإذا كانت الظروف التي مرَّ بها العراق أنتجت لنا ما يسمى بـ"سياسيي المصادفة"، فإنها أنتجت لنا كذلك أدباء ونقّاد المصادفة. وكمحاولة للخروج من هذا المشهد الأدبي، ووضع أصابع اليد على أهم آليات إنتاجه، صدر مؤخرًا عن دار الأمير في النجف كتاب "بنية النص وموجهات الإشهار، قراءة في رواية ساعة بغداد"، للناقد الدكتور رائد حامد المرعبي، والذي افتتح كتابه بعبارة لكولن ولسن تقول إن "تشجيع أولئك الذين سيصبحون كُتابًا في المستقبل، أشبه بوضع السماد في حديقة تمتلئ بالأعشاب الضارة".

كتاب الدكتور رائد حامد المرعبي، الصادر عن دار الأمير، 2019

والمرعبي، اتخذ من رواية شهد الراوي مثالًا، أو عينة لما ينتج، وما سوف ينتج من نصوص رديئة، لكنها في نفس الوقت تصل إلى العالمية، وتترجم إلى عدّة لغات أجنبية، وتكتب عنها عشرات المقالات النقدية والدراسات، لكن هذا لا يعني جودة النص ولو أعجبَ نصف سكان الكرة الأرضية، كما أنه تطرّق إلى موضوع الإشهار بوصفه "سلطة جديدة من خارج النص، إذ أن الإشهار يقسم إلى نوعين: نصي وسياقي، وما اشتغل عليه الناقد، هو "الإشهار السياقي" والذي يعد سببًا رئيسًا وراء هيمنة الأعمال الرديئة على المشهد الثقافي برمته وأصحابه الذين يسعون وراء النجومية وبقع الضوء دون أدنى جهد من خلال عواطف الناس... إذًا، فالكتاب يهيئ لنا أدوات معرفية تمكننا من تفكيك أي عمل آخر بعد وضعه على طاولة النقد والتشريح والتحليل.

يتميز أسلوب حامد المرعبي، بالأسلوب السهل غير المتكلف، وكأنّه أصدر كتابه لعامة القراء، متجاوزًا الزخارف اللغوية والمصطلحات النقدية الفضفاضة التي تُرهق القارئ دون فائدة، والتي تكثر عادةً في الكتب النقدية. وقد يرهق هذا الكتاب أصحاب النوم الخالد، الذين يتدثرون بذائقة مشوهة، يهمهم الكم لا النوع، والذين غالبًا ما يرددون العبارة المشهورة أنّ "تكتب نصًا رديئًا، أفضل من أن تطلق الرصاص على أحدهم"، متناسين أن أصحاب النصوص الرديئة كالنبات الضارة، والتي سرعان ما تنمو وتتلف كل شيء من حولها، ومتناسين أيضًا أن النصوص الأدبية "تحمل في جيناتها الفلسفة، وتؤسس للمعايير الأخلاقية والاجتماعية والمادية وتوسع الآفاق نحو عوالم رحبة"، لذلك يجب أن تكون هناك سلطة نقدية تكافح هذه النصوص قبل أن تنمو ويذاع صيتها وقبل أن تؤسس لشيء.

يقع الكتاب في 122 صفحة من القطع المتوسط متوزعة على فصلين، جاء الفصل الأول بعنوان (بنية النص)، أمّا الفصل الثاني فقد جاء بعنوان (موجهات الإشهار). في الفصل الأول تناول المرعبي (بنية النص) وفي الفصل الثاني تناول موضوع (الإشهار). فيما يطرح إشكالية البحث، والتي تحاول فرضيته الإجابة عليها؛ "هل بات نجاح نص ما، متوقفًا على مدى توفر عناصر الجودة في ذلك النص؟".

يرى الناقد المرعبي أن رواية (ساعة بغداد) هي استنساخ تجربة، أو نسخة مشوّهة عن رواية (صح النوم)، في الخطوط العامة للرواية، وفي البعد الرمزي الذي تحمله

ومن خلال هذه الإشكالية يأخذنا في رحلة محفوفة بالتشويق للإجابة عليها خلال البحث. إذ يقول في الصفحة الثانية "لقد بات من الواضح أن نجاح نص (ما) لا تقاس بكثرة القرّاء، كما أنّها لا تعني جودة ذلك النص، أو خضوعه للمقاييس الإبداعية، وبتعبير آخر، لا تعني نجاحه من الناحية الفنية، إذ لربما كان ذلك النجاح مرده إلى الجانب التسويقي (الإشهار) والذي يتعامل مع النص على أنه سلعة ثقافية". ولذلك يحاول المرعبي تفكيك شفرة النص من الداخل؛ لمعرفة ما إذا كان هذا النجاح نابعًا من النص نفسه، أو إنه راجع إلى سياقات خارجية يفرضها الإشهار وموجهاتها.

اقرأ/ي أيضًا: البوكر.. دعوة إلى المراجعة

في تمهيد البحث والذي جاء بعنوان "الرواية بوصفها صناعة" يتطرق المرعبي إلى متطلبات بناء النص الإبداعي، وهي "الاستعداد الفطري (الموهبة) والجهد الفكري، ويؤكد على ضرورة أن "تكون كتابة النصوص الإبداعية خاضعة لمناهج تأخذ على عاتقها تقويم طرق إنتاجها بما توفره من أدوات معرفية"، ثم يشير المرعبي إلى ضروريات تشكيل النص السردي، والتي تحكم صنعته من الداخل والخارج، فعلى المستوى الدخلي "ضرورة إحاطة المبدع بأساليب اللغة وطرائق صياغتها، فضلًا عن تقنيات السرد... وإن أي خلل في تلك المنظومة ينسحب سلبًا على مجمل البناء السردي"، أما من خارج النص فإنّ "طبيعة الموضوع الروائي تستدعي الإلمام بثقافة تتعلق بحيثيات وتفاصيل تسهم في إضفاء لمحة واقعية على النص، إذ إن الرواية عمل شاق وجنس يتداخل فيه الواقعي بالمتخيل".

لذلك يطرح المرعبي مجموعة من التساؤلات، والتي يقسمها على قسمين، جاء القسم الأول بهذه الأسئلة:

  • هل نجحت (شهد الراوي) في إحكام صنعتها الروائية؟
  • كيف كانت لغة الرواية من حيث الأسلوب والصياغة؟
  • هل وظفت الروائية تقنيات السرد بشكل واعٍ، بحيث يخدم ذلك التوظيف البناء السردي ككل؟

والقسم الآخر من تلك التساؤلات والتي يجيب عليها في (تمهيد الكتاب والأخرى يرجئ الإجابة عنها إلى سياقاتها المنهجية).

  • هل هناك أثر لرواية (ما) في رواية (ساعة بغداد)؟
  • ما هي المسافة بين المتخيّل والمرجعي (الواقع) في رواية (ساعة بغداد)؟

فيما يخص أجوبة القسم الثاني يرى حامد المرعبي وجود مقاربة بين رواية ساعة بغداد من حيث البناء العام أو البعد الرمزي مع رواية (صح النوم)، للكاتب والروائي المصري يحيى حقي، والتي صدرت في أعقاب ثورة 23 يولو.

روية يحى حقي الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب

ويجمل رائد المرعبي مجموعة من النقاط التي تبين أوجه التقارب بين الروايتين نذكر منها:

تشترك الروايتان في وحدة هيكلة السرد، إذ كلتاهما مقسم على كتابين: (كتاب الأمس)، و(كتاب اليوم) وفي رواية (صح النوم). وقد كان إنشاء السكة الحديد، ومرور أول قطار بالقرية، وهو الحد الفاصل بين الكتابين، مثلما قسمت رواية (ساعة بغداد) على (كتاب طفولة الأشياء الواضحة)، و(كتاب المستقبل).
رمزت القرية في رواية (صح النوم) إلى مصر كافة، مثلما كانت (المحلة) في رواية (ساعة بغداد) رمزًا للعراق كافة.
صوّرت رواية (صح النوم) إسقاطات الوضع الجديد بعد ثورة (23) يوليو، مثلما صورت رواية (ساعة بغداد) بعضًا من تفاصيل الوضع الجديد بعد عام 2003، من قبيل صعود طبقة سياسية، كان بعض أفرادها هاربًا لأسباب جنائية.
التقارب في طريقة عرض الأحداث، إذ أن رواية (صح النوم) كتبت بالاعتماد على أسلوب (المذكرات)، والرواية في (ساعة بغداد) تستذكر باستخدام تقنية (الاسترجاع) لفترة الطفولة، ومن ثمّ دونت الأحداث التي مرت بها في (سجل) ليتحول ذلك التدوين إلى مذكرات.
هناك تشابه يصل إلى حد المطابقة في طريقة عرض الشخصيات (الأسلوب)، إذ يستعرض الراوي في رواية (صح النوم) حياة الشخصيات، وما حل بها بعد ثورة يوليو شخصًا شخصًا، وهو الأسلوب عينه في رواية (ساعة بغداد) إذ تستعرض الرواية حياة الشخصيات، وما حل بها في كتاب المستقبل، واحدًا واحدًا.

رمزت القرية في رواية (صح النوم) إلى مصر كافة، مثلما كانت (المحلة) في رواية (ساعة بغداد) رمزًا للعراق كافة

لذلك يرى المرعبي أن "رواية (ساعة بغداد) هي استنساخ تجربة، أو نسخة مشوهة عن رواية (صح النوم)، في الخطوط العامة للرواية، وفي البعد الرمزي الذي تحمله"، كما جاء في ص14.

اقرأ/ي أيضًا: المكتبات العامة في العراق.. من احتكار الاستبداد إلى إهمال المحاصصة

أما عن جواب السؤال الثاني، والذي يتعلّق بالمسافة بين المتخيّل والمرجعي في الرواية ذكر المرعبي؛ إن الكاتبة لم تستطع أن "تجنح بالرواية بعيدًا عن محور حياتها، فهي وثيقة شبه رسميه عن سيرتها، إذ أن الفترة الزمنية التي عاشتها الكاتبة والرواية واحدة، ويستشهد المرعبي بصاحب كاتب (رسائل إلى روائي شاب) الذي يقول "الأعمال التي لا تستقل عن مؤلفها، وتبقى مجرد وثيقة من سيرته وحسب، فأنها روايات خائبة بكل تأكيد".

ركز الفصل الأول من الكتاب والذي جاء بعنوان (بنية النص) على الأسلوب الروائي والتقنيات السردية، فيما يخص الأسلوب يشير المرعبي إلى وجود عدة ظواهر سلبية في رواية (ساعة بغداد) منها: استعمال اللهجة المحكية في لغة الرواية، حيث يقول إن "رواية ساعة بغداد مثقلة بذلك الاستعمال للهجة العامية (المحكية) ولم تقتصر على الحوارات الدائرة بين الشخصيات، بل جاوزتها إلى إدخال مفردات وجمل في نسيج النص السردي، بالإضافة إلى إدخال نصوص الأغاني العامية والإفراط في ذكرها" ثم يذكر العديد من الشواهد في الصفحات 26- 27- 29- 30.

ويشير كذلك إلى العديد من الأخطاء الإملائية والتي تدل على ضعف المقدرة اللغوية للكاتبة، كذلك يلفت إلى التكرار بعد أن يذكر أنواعه (المذموم والممدوح).

إن طبيعة التكرار في رواية (ساعة بغداد) بحسب ما يرى المرعبي هي من النوع الأول (المذموم) ويعلّل رأيه بالقول "لأنه لا فائدة منه تذكر، ولم يكن حضوره فنيًا، أو يخدم الجانب الأسلوبي فيها، فضلًا عن الملل الذي ينتاب القارئ وهو يتابع سير الكلمات أو الجمل المكررة". ثم يعطي مثالًا على تكرار الفعل (دخلت/ دخل). "دخلت إلى حلمها بقرة، دخلت دراجة هوائية، دخل جسر، دخلت سيارة عسكرية...." ساعة بغداد ص7 "فضحكت خالتي، وضحك أبي، وضحكت أمي، ولم أضحك أنا".

فضلاً عن ذلك، فأن أسلوب الكاتبة وما يحدثه من خلل في نقل الصورة التي تريد إيصالها أو الفكرة المرجوة من العمل، ويستشهد المرعبي بعدد من النصوص تبين ركاكة أسلوب الكاتبة منها "الليلة الثانية قبل أن تغيب الشمس بقليل" يعلّق المرعبي "هذا الكلام غير دقيق؛ إذ اكان من المفترض أن تقول في اليوم الثاني، إذ الليلة لم تبدأ؛ لأن الشمس لازالت"، كذلك عبارة "وتضحك من كل قلبيهما" والتي لا تحتاج إلى تعليق.

يرجع المرعبي بعض النصوص التي حشرتها الراوي بروايتها في جسد النص السردي إلى أصولها من قبيل "لا تعبر النهر مرتين" وهي عبارة جاءت على لسان هرقليطس

ويتطرق حامد المرعبي في القسم الثاني من الفصل الأول إلى التقنيات السردية في رواية ساعة بغداد، بدءًا من غلاف الرواية بوصفه من أهم عناصر النص الموازي وانتهاءً بالمكان (الحيز المكاني للرواية). حيث يشير إلى عددٍ كبيرٍ من الأخطاء والثغرات على مستوى التقنيات السردية في رواية (ساعة بغداد). منها هيمنة الرواي العليم وهو نمط ساد في الحكايات التقليدية، فهو كمال يقول المرعبي "يدخل أينما أراد، ومتى ما شاء، دون أن يحده حاجز، أو يمنعه مانع... وهو ما أفقد الرواية متعتها الفنية".

اقرأ/ي أيضًا: عشرة أمثلة على فظائع شعراء عصرنا

كذلك يشير المرعبي إلى الثغرات السردية، والأخطاء في استعمال التقنيات الزمنية (الاسترجاع والاستباق) فضلًا عن إغراق النص السردي بأحداث ومسميات واقعية مما أضعف الجانب الفني للنص وأفرغه من عنصر الخيال وجعله أقرب إلى الخواطر والذكريات منه إلى الرواية.

ويرجع المرعبي بعض النصوص التي حشرتها الكاتبة في جسد النص السردي إلى أصولها من قبيل "لا تعبر النهر مرتين" وهي عبارة جاءت على لسان الفيلسوف هرقليطس، وعبارة "الشمس تجفف الأفكار... الحضارات الحديثة شتائية"، وهذه المقولة بحسب المرعبي امتصاص لرأي ابن خلدون في أن الحضارات الكبرى تنتشر في المناطق التي يسميها مناطق اعتدال مناخي.

ويلفت المرعبي إلى محاولة فلسفة الأشياء من قبل الكاتبة، الأمر الذي أوقعها في إشكالية معرفية، فهي تقول في الرواية "المستقبل ليس كل ما هو جديد وقادم من ماكنة الزمن، بل هو كل ما لا نعرفه" ساعة بغداد، ص225. حيث يتساءل المرعبي "كيف يكون المجهول مستقبلًا، إذا ما دخل في حيز هذا الكلام، ماضٍ نجهل أسراره. هل يكون ذلك الماضي مستقلًا؟!".

أخطاء جمة يقف عندها المرعبي في كتابه، تفتح أبواب الأسئلة التي تراود أذهاننا، إذا كان ثمة رواية بهذه الكم من الأخطاء والثغرات على مستوى الأسلوب واستعمال التقنيات السردية والأخطاء الإملائية والمعرفية كيف استطاعت أن تثير كل هذه الضجة الثقافية، وكيف طُبعت مرات عدة وبيع منها أكثر من 25 ألف نسخة في مدة وجيزة، وكيف وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البُوكر العربية، وكيف فازت بجائزة أدنبرة الدولية، وتُرجمت  إلى اللغة الإنجليزية، وكيف حظيت بالدراسات والأوراق النقدية التي تشيد بها في الصحف العربية والعالمية؟

هذا ما سيجيبنا عنه رائد المرعبي في الفصل الثاني من كتابه والذي يحمل عنوان (الإشهار).

  • كيف ساهم الإشهار في إنجاح رواية ساعة بغداد؟

في بداية الفصل الثاني يذكر المرعبي عدة تعاريف للإشهار في كتابه، فهو اصطلاح يعرف بـ"نشاط يهدف إلى التأثير، في سلوكيات الأفراد، وتغيير آرائهم واتجاهاتهم، أو تعزيزها أو المحافظة عليها"، ممّا يؤدي بدوره إلى ذوبان الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد، وتكمن خطورته "كونه يسهم في خلخلة القيم والمفاهيم الثابتة، لدى الأفراد، وسعيه لتغيير نمط وسلوك عيشهم وتفكيرهم".

اقرأ/ي أيضًا: الرداءة أقوى من الفن

ومن سمات الخطاب الإشهاري أنه يختزل في بنية تكوينه ثلاثية (التهميش، والإقصاء، وقوة الإقناع)، فهو بحسب ما ينقل المرعبي "سلطة تقوض حرية الفرد، وتستبدلها بحرية المؤسسات". والإشهار فعل ثقافي في المقام الأول "هذا الفعل لا يمكن أن يفهم إلا في سياق ارتباطه بالخطابات الثقافية التي تؤطر السلوك الفردي، وتحدد له مراميه وتوجهاته أي ما يطلق عليه (اللاشعور الثقافي) الذي يعبر التنكر له والكفر به خروجًا عن القيم التي تحدد هوية الفرد الحضارية وتشدّه إلى مجتمعه وثقافته".

بعد هذا العرض الوجيز للإشهار ودوره وخطورته وسماته يثير المرعبي بعض الأسئلة التي ما انفك يطرحها من عدة زوايا كنوع من مشاركة القارئ وإشعال جذوة التفكير النقدي لديه، وهنا يسأل المرعبي:

  • هل تمتلك رواية (ساعة بغداد) مقومات نصية تؤهلها خوض مسارات تنافسية في مضمار المنصات الجوائزية؟
  • هل كان النقد موجهًا من موجهات الإشهار، التي أسهمت في إنجاح الرواية جماهيريًا؟

وقبل الإجابة على هذين السؤالين، يعرض المرعبي وسائل الإشهار، كي يتسنى للقارئ معرفة القنوات التي مرت من خلالها تلك الموجهات، والدور الذي تمارسه، ومنها وسائل الإعلام، التلفزيون، الراديو، الصحافة، الملصقات، السينما، بالإضافة إلى الوسائل الجديدة، والتي لعبت دورًا في التحولات الثقافية ويقصد بها (مواقع التواصل الاجتماعي). تشترك كل هذه الوسائل في محور بعينه، وهو محاولة السيطرة بالتحكم في عقل الإنسان وسلوكه.

"المحاصصة" في جائزة البوكر العربية ودورها في ترهل الذائقة 

تمارس الجوائز الأدبية ولا سيما تلك التي تعرف على مستوى العالم العربي دورًا إشهاريًا كبيرًا (بصرف النظر عن كون هذا الإشهار يسلط الضوء على من يستحق ومن لا يستحق) ومن أهم تلك الجوائز جائزة (البوكر العربية) التي باتت تمارس سلطة الإقصاء الثقافي، وتحدد ما يقرأ وما لا يقرأ، وسواء رشح العمل إلى الجائزة أو فاز بها، فإنها تمنحه صك النجاح، حتى وإن كان مجرد كلمات مصفوفة.

في السنوات الأخيرة طفت على السطح عدة قضايا في خصوص السياقات التي تخص الجائزة، الأمر الذي جعلها في دائرة الشك من قبل الكثير من أهل الاختصاص. حيث يشير المرعبي إلى مجموعة من السياقات التي أدت إلى ترشيح رواية (ساعة بغداد) لجائزة (البوكر) ومن أهمها "سياق المحاصصة"، حيث قرر مجلس الأمناء في سنة 2017، أن يعدل النظام من واقع نمو الجائزة في الأعوام العشرة الأخيرة، وذلك بهدف أن يكون عادلًا في تعامله مع الناشرين وأن يحافظ على أهلية كل الناشرين في ترشيح رواياتهم للتنافس على الجائزة.

مّما يعني إنها سوف تعتمد نظام المحاصصة، وفي ظل هذا النظام صار يحتم على لجنة الأمناء قبول نصوص تفتقر لمقومات النص الإبداعي، وهي بحسب ما يقول الناقد جلال أمين "لا تستحق عناء القراءة".

فضلاً عن ذلك "زخم النصوص المشاركة والذي أسهم في خلق حالة من الإرباك لدى لجنة التحكيم، وقد كشف بعض المحكمين في دورات سابقة أن تقييمهم لجودة الرواية يكون من خلال التصفح العشوائي، وإن قضية قراءة الرواية محكوم باحتمالين: إما أن تتعاطف مع الرواية أو لا تتعاطف معها دون تقيد بتقاليد".

تمارس جائزة البوكر سلطة الإقصاء الثقافي، وتحدد ما يقرأ وما لا يقرأ، وسواء رشح العمل إلى الجائزة أو فاز بها، فإنها تمنحه صك النجاح، حتى وإن كان مجرد كلمات مصفوفة

وهنا يربط المرعبي بين طبيعة العلاقة بين (المنبر الجوائزي) وتقنية الإشهار، حيث "تضم الجائزة إلى جانب قيمتها النقدية موضوعة إشهارية، إذ سرعان ما تنفد طبعات تلك الرواية التي رشحت أو حصدت لقب الجائزة... فالدور الذي يقوم به الإشهار في موضوعة الجائزة هو إضفاء القيمة أو الأهمية من خلال تنبيه الجمهور إلى قيمة الرواية (المرشحة)، ومن ثم يهدف ذلك النشاط (الإشهاري) إلى بناء صورة ذهنية، تصور لنا تلك النصوص على أنها هي المثال، هذا المثال سيجد صداه لدى المتلقي ويستحوذ على رضاه، من ثم يقنعه بالإقبال على قراءة تلك النصوص".

اقرأ/ي أيضًا: "البوكر" الإمارتية و"الإندبندنت" السعودية.. أغطية عالمية لثقافة المنشار

كما يلفت المرعبي إلى الدور الذي لعبه نقد الرواية وكثرة الهجمات التي لاقتها حتى قيل إن "الهجمات التي شنّت ضد رواية ساعة بغداد، هي أكثر من الهجمات التي شنت على بغداد نفسها"، ومن ثم أدت كل هذه العوامل إلى صناعة رواية تفتقر لأهم مقومات العمل الأدبي، وحققت النجاح على المستوى الإشهاري (التسويقي) الذي بينه هذا الكتاب والذي اتخذ من رواية ساعة بغداد مثالًا لتلك الأعمال التي تنجح خارج بنيتها.

  يساهم هذا الكتاب برفع غشاوة التضليل الإعلامي عن عيون القراء ويعتقهم من التابوهات التي شكّلها الإشهار ويسهم كذلك في تنمية الحس النقدي وإنعاش الذائقة ويجعل القراء في منأى عن خديعة الأسماء الأدبية، والتي تنامت لتسمم الوسط الثقافي وتجعله يظهر بوجه مشوه بعد أن أخذت المساحة الأكبر فيه.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ليلة المعاطف الرئاسية.. مبرّرات العالم الغرائبي

عبد العظيم فنجان.. الشعر على مزاج الفيسبوك