28-أبريل-2020

ما يحصده الكتّاب في كبرهم إنما هو نتاج زرع أساتذتهم فيهم (فيسبوك)

حسنًا، هو هاجس عذّبني منذ أن علمت أنّ ما يحصده المرء في كبره من علم ومعرفة إنما هو نتاج زرع أساتذته فيه، سواءٌ في الدراسة أم الحياة. لن أنسى ما فعله أبي أمامي في شارع الرشيد ذات يوم من أيام الثمانينيات. كنّا في مشوار وإذا به يقف فجأة ويصيح: أستاذ فلان! كان هناك شيخ طاعن بالسن يسير بصعوبة يقوده شاب لعله حفيده. وقف أبي وكأنه في العاشرة من العمر رغم أنه تجاوز الخمسين، ثمّ هرع إلى كفّ الرجل المسنّ وقبّلها وقال له: شلونك استاذي! كان الشيخ لا يسمع بشكل جيد فقرّب أبي فمه من أذنه وقال: إني غازي محمد راضي تلميذك بمدرسة كذا، ثم بدأ يناجيه لدقائق. سمعت الأستاذ يقول له ـ أنت ابن محمد راضي العريف؟ بعد مغادرتنا، أخبرني أبي أنّ الرجل معلمه في الابتدائية.

  مشهد تمنيت لو كنت أنا بطله، لكنني للأسف لم أصادف ستاد شريف أو ستاد هادي يومًا. لم أصادف ستاد نصر مثلًا، ذلك الذي توقع لي أن أكون كاتبًا في المستقبل، خلافًا لمدرس نقيض جاءنا قبله لا أتذكر اسمه. الأخير اتهمني مرّة بأنني سرقت موضوع الإنشاء من "كتاب خارجي". قرأ العبارات في دفتري ثمّ نظر لي مليًّا وسألني: هذا أنت كاتبه؟ قلت له: أي ستاد. فابتسم بطريقة مهينة وأشاح عني وهو يقول: ليش تنقل من كتاب خارجي ابني.. اكتب أنت. قلت له: والله آني كاتبه ستاد. لكنه تركني وراح يقرأ بدفتر زميلي.

    لماذا استدرت اليوم لأساتذتي ومعلميّ؟ ثمّة سبب طريف، فقبل سنتين أو ثلاثة، دُعيت في الفيسبوك إلى كروب يضمّ خريجي كليّة اللغات، وما إن انضممت إليه حتى رأيتني أمام عشرات الزملاء والأصدقاء القدامى ممن تقطعت سبل الحياة بنا وبهم. لكنّ أبرز من عثرت عليه أستاذتي الأروع والأذكى الدكتورة مي عبد الكريم. هذه العالمة الجليلة في اللغة والأدب الفرنسيين، الساحرة بقوة شخصيتها وأناقتها وطريقة تدريسها وتعاملها مع الطلبة. مع الدكتورة مي، كان هناك أساتذة آخرون منهم صادق عزيز وكاظم المقدادي وزهير مجيد مغامس. ولطالما تعلمت من هؤلاء الكثير، وأهم ما تعلمته منهم تواضعهم وحبّهم لعملهم وحسّهم الإنساني الهائل.

 هل تراني سأنسى، مثلا تلك الواقعة المؤثرة؟ في السنة الجامعية الأولى عام 1990، بعد أقل من شهر على دوامنا، صادف ما يُسمّى آنذاك بـ(يوم الشهيد)، وكانت العادة أن تخصص المحاضرة الأولى لاستذكار شهداء حرب إيران. في تلك المحاضرة، طلبت الدكتورة مي عبد الكريم من الطلبة أن يتحدّثوا هم. وبدأ بعضهم يتحدث حتى وصلنا إلى لحظة غير متوقعة، فإذا بي أدخلهم في جو درامي؛ رفعت يدي، ثمّ أخرجت من (الليفكس) دفتر أشعاري وشرعت أقرأ إحدى المراثي التي دأبت على كتابتها آنذاك ونشرت بعضها لاحقاً. قلت لهم إنّها عن أخي الشهيد فبوغتوا. أدخلتهم في المعنى الحرفي المرّ لما يسمّى "يوم الشهيد". قرأت بانفعال فران على القاعة صمت ثقيل، حزين وسوداوي، وتأثّرت أستاذتي الرقيقة أيّما تأثّر بحيث اغرورقت عيناها كما أتذكّر. الغريب أنّه قبل يومين، تذكّرت أستاذتي تلك الحادثة وهي ترد على تحيتي لها في الكروب. نعم، تذكرت ما كنت أظنها قد نسيته، إذ يبدو أنّ الواقعة طُبعت في ذاكرتها بسبب زخمها الوجداني. بل حسب رأيها، أسهمت تلك الحادثة في زيادة ثقتي بنفسي أثناء درسها، وهذا جدّ صحيح. فبعد تلك الحادثة، تكسّر جبل الجليد بيني وبين الحياة الجامعية التي بدت جديدة عليّ، وعرفني زملائي بوصفي شاعرًا ومثقفًا شغوفًا بالأدب. قد تبدو الحادثة بسيطة، لكنها أثرت بي كثيرًا آنذاك، تمامًا مثلما أثّرت العبارة التي كتبتها الست فائزة في ورقة الإنشاء خاصتي في الأول أو الثاني المتوسط. كانت قد وضعت خطًّا أحمر تحت عبارة في الإنشاء ثمّ جرّت سهمًا إلى أعلى الصفحة لتكتب "صورة رائعة". كانت تلك الإشادة أعلى جائزة يمكن أن يتلقاها فتى في الثالثة عشر من العمر، فتى يحبّ المجازات والاستعارات والبلاغة، ولا يدري أنّها صناعة جمالية يستقتل الآخرون لإجادتها.  

آه يا أساتذتي الكرام.. هل كنت لأكون ما أنا عليه اليوم لولاكم!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أيّها المتآمرون .. أهلًا بكم دائمًا

الشعراء يتّبعهم الحالمون!