07-ديسمبر-2019

الاحتجاجات في العراق لا تتموضع في مكان بل تحوّلت إلى ثقافة شعبية معاشة (Getty)

لا توجد إشارة واحدة تهدينا أو تسعفنا لتوصيف سلطة  الخضراء ببعض"العقلانية" أو"الحكمة". ومن الصعب استيعاب وجود خبراء أكفّاء لهم دور حيوي في تقديم المشورة لهذه السلطة المضطربة. إذ لو كانت ثمّة "شورى" حقيقية تتحلّى بالحكمة يتم تداولها فيما وراء جدران الخضراء، فبدون أدنى شك، سينبهون هذه الجماعة القمعية، أن الاحتجاج استراتيجية وليس تكتيك!

لا بدّ أن تعرف السلطة أن الاحتجاجات لا تتموضع في مكان بل تحوّلت إلى ثقافة شعبية معاشة. ولو قدّر لهذه السلطة فض الاعتصام فهذا لا يعني رجوع الحياة إلى طبيعتها 

 يعني أن الاحتجاجات لا تتموضع في مكان، بل تحوّلت إلى ثقافة شعبية مُعاشة. ولو قُدِّر لكم فض الاعتصام في ساحة التحرير، فهذا لا يعني رجوع الحياة إلى طبيعتها المعتادة. وإن دلّ الأمر على شيء، فهو يدلّ، بكل تأكيد، على أن هذه السلطة تعاني من الاضطراب وعدم التجانس والاستقرار، فيجري تعويض هذا التشتت والاضطراب بالمزيد من القمع الدموي.

اقرأ/ي أيضًا: أسئلة من ليلة الجثث المتفحمة!

أمر هذه السلطة محيّر لدى العقلاء؛ إنها تخترع علاقة طردية مُتَخَيّلَة بين غضب الجماهير وبين وجودهم في ساحات الاحتجاج. بتعبير آخر، إنها تربط هذا الحدث الاحتجاجي العظيم وتحصره في ساحات الاحتجاج فقط. فهي الآن لا شغل لها سوى انتظار خلو ساحات الاحتجاج من المتظاهرين والمعتصمين. بالطبع لهذه القراءة الجاهلة أكثر من دلالة؛ فسلوك القائمين على هذه السلطة يدلل بوضوح أنهم يتصرفون كما لو أنهم يعملون بعقود مؤقتة في هذا البلد، أو أنهم أغراب لا يجيدون قراءة المجتمع العراقي، وإلّا ماذا يعني قمع الناس بهذه الطريقة الوحشية؟ يعني هذا أنهم يعتقدون أن هذا القمع سيطمس معالم انتفاضة تشرين!

المشكلة الكبيرة أن لا أحد من هؤلاء يدرك أنهم تحولوا إلى أعداء بنظر الشعب العراقي: لقد أصبحتم أعداء لهذا الشعب الجريح، فقد تم احتقاره وكراهيته والانتقام منه بأبشع الطرق، كما لو أن هذا الشعب المبتلى مطالب بثأر يجهل أسبابه! فمن الاستحالة بمكان أن ينسى العراقيون هذا القتل المجاني لأبنائهم. كيف يمكن لأم فقدت فلذة كبدها من القنّاص الملثم أن تنسى أي فجيعة خلقت لها سلطة الخضراء. لقد وقعت هذه السلطة في دائرة مغلقة وذهبت إلى طريق مسدود، والرهان على قوتها العسكرية وآلياتها القمعية لا يدوم طويلًا، فلهذه الأجيال قابليات نجهلها جميعًا، ولا أحد يدرك مكنوناتها سوى الشباب أنفسهم، فأهل تشرين أدرى من سلطة الخضراء.

منذ بداية هذه الانتفاضة وما تلاها من أحداث مروّعة، لا شيء يدل على الإطلاق أن هذه السلطة تتمتع بذرّة وطنية! ومؤكد أن هذا الكلام لم نستلهمه من قصيدة شعرية، ولا هو قتال مع أشباح، على طريقة مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما الخسائر الجسيمة التي مُنيت بها العوائل العراقية تفسر لنا أن مفهوم الوطنية أجنبي عن ذهنية جماعة الخضراء، وأن أرخص شيء في هذا البلد النكوب هو الإنسان العراقيّ. فهذا الكلام موجه، على الأقل، إلى من يديرون فعليًا الملفين السياسي والأمني، ذلك أنه ليس كل من تولّى منصبًا في هذا البلد حر الإرادة، حتى لو كان رئيسًا للسلطة التنفيذية. كيف تجتمع المحاصصة الطائفية مع حرية الإرادة؟ أجد هذا الأمر عسيرًا ولا يتسم بالواقعية.

المهم في الأمر، سيبدو من غير المنطقي أن نحلل ما يجري بعقلانية، وحينما أقول ذلك فدليلي معي، وهذا الأخير أفرزه الواقع وليس التحليلات الذهنية المجردة، ولا المناكدات الشخصية، ولا الإعلام الخليجي أو التركي أو الإيراني أو الأمريكي، فسؤالي لكم: هل ينسى هذا الشعب، أنه آزركم أيام الشدة، ودافع عنكم ببسالة عز مثيلها، ورفع من شأنكم يوم كنتم في مصاف العدم، وانتخبكم ورفعكم للسلطة، حيث المال والجاه والعيش الرغيد. وعلاوة على هذا كلّه، اقتنع بالقليل إكرامًا لوجودكم بالخضراء، مقابل وجوده البائس في مدن لا تصلح للعيش البشري سُمَيت بـ"مدن الحواسم"، وهي صورة مُحَدّثة نسبيًا من صرايف "الشروكَية" في خمسينات القرن الفائت. 

من غير المعقول أن يتحوّل الفرد العراقي إلى بطل و"ابن الملحة" وقديس ومجاهد حينما يموت من أجلكم، وبقدرة قادر يتحوّل إلى شيطان رجيم ومدسوس وعميل حينما يطالبكم بالتحلّي بالوطنية؟

 فمن غير المعقول أن يتحوّل الفرد العراقي إلى بطل و"ابن الملحة" وقديس ومجاهد حينما يموت من أجلكم، وبقدرة قادر يتحوّل إلى شيطان رجيم ومدسوس وعميل حينما يطالبكم بالتحلّي بالوطنية! هل ثمّة شيء يوحي بالعقلانية بسياستكم؟ هل سمعتم أن سلطة بهذه المواصفات استطاعت الصمود؟ على ماذا تراهنون يا ترى؟ تصفّون حسابكم مع العراقيين بدم بارد  من خلال الخطف والاعتقال، ومن ثمّ تعتقدون أنه يمكن أن ينسى هذا الشعب كل هذا التنكيل؟ إن كان هنالك شعب متوفر بهذه الصفة، فهو حتمًا ليس الشعب العراقي.ِ

 

اقرأ/ي أيضًا:

دروس من ساحة التحرير

انتفاضة تشرين.. جيل اليوم في مواجهة النظام الطائفي