22-أبريل-2020

شكلت لنا مسافة الأمان هاجسًا حتى غدت تضغط على عقولنا فتتحرك أجسادنا وفقًا لها (Getty)

أي نعم، قالها (أبو المثل) في معنى يختصر ذروة الأنانية: أنا ومن بعدي الطوفان، وهو يرادف في وجه من وجوهه قولهم: حشر مع الناس عيد. أي إنه حين تعمّ المصيبة يخفّ وقعها، وإذ نشعر أننا "كلنا في الهوا سوا"، تهون عظائم الأمور.

ما إن تحاصر الإنسان الأخطار المجهولة حتى يفقد الثقة بمن يحيط به، ويحرص على الاحتفاظ بـ"مسافة أمان" تفصله عن عدوه المجهول

فلأقل إذن إنها فرصة عظيمة للباحثين الاجتماعيين ودارسي سيكولوجيا الجماهير والأفراد. فأنت أمام وباء كونيّ لا يتكرر إلّا مرة كلّ كذا قرن. هي فرصة لتتبع التغيرات القيمية والثقافية والسيكولوجية التي تطرأ على نفوس الأفراد. وهي فرصة أيضًا لتتبع أثر القوى الغيبية في الحفاظ على توازننا الداخلي لمن يؤمن بالغيبيات، أو العكس، فقد تكون الجائحة سببًا لتعميق أزمة هذه القوى عند من لم تثبت لديهم أساسًا.

اقرأ/ي أيضًا: أيّها المتآمرون .. أهلًا بكم دائمًا

عادة ما تؤدي إلى ذلك هستيريا الخوف الجماعي التي تنتج عن الكوارث الكبرى، الحروب الأهلية مثلاً. في أعوام 2005 ـ 2008 رأينا ذلك جليًّا ولمسناه لمس اليد. بعضنا استعاد ملاذه الديني وأسلم أمره للأقدار قائلًا: حسبنا الله ونعم الوكيل. في حين اهتز يقين البعض الآخر بـ"الوكيل" وقال: لا يتوكل عن نفسي سوى نفسي. تلك الأيام، حدث أن تبدّل كثير من عاداتنا التي درجنا عليها. أصبحنا نرتاب بالآخر ارتيابًا مرضيًا؛ إن أشار لنا مجهول أن نقلّه بسيارتنا مثلاً أشحنا عنه مفترضين أنه "عدو" يروم الغدر بنا. قبل تلك التجربة الرهيبة ما كنا لنسيء الظن بمن لا نعرف، أما بعد الحرب، فصرنا لا نحسن الظن حتى بمن نعرف.

هذا هو دأب الإنسان، ما إن تحاصره الأخطار المجهولة حتى يفقد الثقة بمن يحيط به، ويحرص على الاحتفاظ بـ"مسافة أمان" تفصله عن عدوه المجهول. يشكّ الجار بجاره والقريب بقريبه، ويضع الجميع "مسافة أمان" افتراضية لتوقي خطر العدو. ولعل "مسافة الأمان" هذه تتجسد بركوننا إلى كهف التكتم غير المعهود، أو إحاطة أنفسنا بدائرة رمزية تفصلنا عن سوانا: صمت مطبق، "نشتري ما نبيع"، بل حتى أسماءنا وأسماء عشائرنا نحرص على إبقائها إلى آخر لحظة طي الكتمان، فإذا عرفنا شريكنا من "أي طير" هو، قلصنا مسافة الأمان. بعضنا تطبّع بهذه الطباع رغم انقضاء الحرب الأهلية.

عبارة "مسافة الأمان" استعيدت مع جائحة الكورونا، وأصبحت تعني إبقاء مسافة نأمن بها انتقال الفيروس. في أوروبا بدأوا يخططون محلات التسوّق ليرشدوا المتبضعين إلى أماكن وقوفهم. وفي بعض المدن، "تحنبلت" السلطات فكتبت أنه يمنع لمس البضائع مطلقًا ما لم يقرر المرء شراءها دون رجعة. بل إن مسافة الأمان، لفرط ما شكلت لنا هاجسًا، غدت تضغط على عقولنا فتتحرك أجسادنا وفقًا لها دون إرادة، لا حميمية بعد اليوم.

مع هذا، هناك ما هو أعمق أثرًا من الركون لفكرة "مسافة الأمان" هذه. لاحظوا مثلا انبعاث بعض السلوكيات البشرية شرقًا وغربًا. هل فكرتم بالتشفي والشماتة بالأفراد والشعوب؟ إن هذا ليجري يوميًا وبطريقة مخزية. كثير من العرب ممن استولت عليهم الكراهية أصبحوا يشمتون بالشعب الأمريكي والأوروبي بشكل صريح لدوافع سياسية مقيتة. وبعضهم يتشفى بالإيرانيين أيضًا من منطلق طائفي. ياللقرف! بموازاة ذلك، يهجس لي أن شريحة من المغتربين العرب صاروا يحسدون أبناء جلدتهم في بلدانهم الأم لأنّ الوباء لم يفتك بهم. أمس قال الرئيس المصري بنبرة شديدة التبرم: مستكثرين علينا ستر ربنا! قالها كما يقولها بعض العراقيين في بيوتهم هذه الأيام وهم يتابعون بعض القنوات التي تتمنى لهم الخراب.

مسافة الأمان، لفرط ما شكلت لنا هاجسًا، غدت تضغط على عقولنا فتتحرك أجسادنا وفقًا لها دون إرادة، لا حميمية بعد اليوم

كلّ هذه دروس مجانية أتمنّى أن يسارع الباحثون لاستثمارها، خصوصًا أنّ في مخيالنا ما يسعفنا على فهمها: كلنا في الهوا سوا، ومن يرى مصيبة سواه تهون عليه مصيبته، وقبل هذا وذاك: إذا متّ ضمآنًا فلا نزل القطر!

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيروس كورونا: العلاج باليوتوبيا!

كورونا العراق: أزمات الاقتصاد وحلول "حافة الهاوية"