17-أغسطس-2022
اعتبر مراقبون أن نص رسالة وزير المالية العراقي إدانة صريحة للنظام السياسي

اعتبر مراقبون أن نص رسالة وزير المالية العراقي إدانة صريحة للنظام السياسي (Getty)

ألترا عراق ـ فريق التحرير

ربما لم يأتِ نص الاستقالة المطوّل لوزير المالية العراقي، علي عبد الأمير علاوي بجديد عندما سبر أغوار أهم جزء في ديمومة وأسباب بقاء النظام السياسي العراقي المتعثر، والجهات الحريصة على استمراه، إلا أنها كانت ما يشبه "الصعقة" نوعًا ما للأوساط الشعبية والسياسية، خصوصًا وأنها جاءت بلغة يمكن وصفها بـ"غير المتخوفة والصريحة" وإن كانت لا تحمل أسماء الجهات المتورطة بالفساد. 

 رأى وزير المالية العراقي صعوبة إجراء تغييرات وإصلاحات اقتصادية كبيرة على أساس مستمر ومستدام في ضوء ما وصفه بـ"اقتصادنا السياسي"

علاوي، الذي يتحدّث كثيرون عن "خبرته الاقتصادية"، واعتداده بنفسه، خاصة في صراعه مع زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، رفع راية الاستلام أخيرًا أمام ما وصفها بـ"الشبكات السريّة والعلنيّة" التي تختطف الدولة العراقية، بحسبما تشير كلماته التي أوردها في نص الاستقالة.

وسبق لعلاوي أن رفض أن يُستضاف في البرلمان استجابة لزعيم سياسي، بحسب وصفه، وهو زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وهو تصرف قلّما يشهده العراقيون في بلد تخضع السلطة التنفيذية دائمًا لشخصيات حزبية في البرلمان أو لشخصيات دينية وسياسية خارج دائرة المناصب الحكومية.

لم أتواصل مع حزب سياسي.. وقبلت المنصب للمساعدة

استهل علاوي في الرسالة المطوّلة لاستقالته، بمخاطبة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي واستعراض أسباب قبوله بالمنصب، مؤكدًا أنه "لم يتواصل مع أي حزب أو شخصية سياسية ولم يعطِ أي وعد يتعلق بمنصب وزير المالية، وقبل التكليف لشعوره بأنه قادر على المساهمة في الحكومة الجديدة والسعي لتحسين رفاهية البلاد وشعبها".

وتطرّق علاوي إلى صعوبة استمرار عمر الحكومة طويلًا وهي حكومة "تصريف أعمال" وعدم امتلاك صلاحيات كاملة لفعل كل شيء، واصفًا الأمر بأنه "محبط للغاية أن نكون في وضع نعرف ما يجب القيام به ولكننا غير قادرين على القيام بذلك بسبب محدودية الصلاحيات وغياب الشرعية البرلمانية".

علاوي أفصح للكاظمي، حول وجود خلافات في الرؤى وعدم رضاه على بعض القرارات الحكومية في الفترات السابقة، وبينما قدّر استجابة الكاظمي لمناقشة هذه التحفظات، إلا أنه وصفها بأنه "ليست تحفظات سطحية بل مبدأية واضطررته لتقديم استقالته".

15 عامًا.. العراق تغيّر كثيرًا ووزارة المالية مؤسسة "مخطوفة وخاوية على عروشها"

وبينما وصف علاوي وصوله لوزارة المالية عام 2020 في حكومة الكاظمي، بأنه كان عبر إجراء "غير سهل"، بسبب تصويت العديد من الكتل السياسية ضده دون سبب واضح بحسب وصفه، اعتبر أنّ "تصويت الصدريين لصالحه هو ما جعله وزيرًا، بالرغم من عدم وجود أي تواصل مباشر بينه وبين الصدريين".

وصول علاوي إلى وزارة المالية بعد 15 عامًا من مغادرتها، عندما كان وزيرًا للمالية أيضًا في عام 2006، فتح عينيه على ما يمكن وصفه بـ"الفظائع"، حيث اكتشف في أسابيع قليلة "الحقيقة المروعة بشأن مدى تدهور آلية الحكومة في السنوات الـ15 الماضية"، مؤكدًا أنه "تم الاستيلاء على مفاصل واسعة من الدولة فعليًا من قبل الأحزاب السياسية وجماعات المصالح الخاصة".


علي عبد الأمير علاوي
تحدث وزير المالية العراقي عن شبكات سرية تسيطر على الاقتصاد في العراق

وصف وزير المالية العراقي، الوزارة التي كان يترأسها بأنها "شبحًا" مقارنة لما كانت عليه في السابق، وشغل مدراء مناصبهم الرئيسة لفترات قصيرة فقط، ووقع العديد منهم تحت تأثير الأحزاب السياسية، وكان العديد من المدراء غير مناسبين أو مؤهلين لمناصبهم، وتقليص الكثير من الموظفين الذين يعرفهم علاوي منذ 2006 عبر الاستقالات والتقاعد والطرد و"القتل"، وأصبحت وزارة المالية ملأى بـ"الأشخاص ذوي المؤهلات المشكوك فيها، وليس لديهم خبرات ومهارات مع القليل من الفهم للممارسات الحديثة في الإدارة العامة والإدارة المالية، وقام غير الأكفاء والمتصلين بالسياسة، بإزاحة الإداريين المهرة".

ووصف علاوي المالية ومهامها بأنها وزارة كانت "تدير دفع الرواتب والمدفوعات الروتينية الأخرى ضمن الموازنة"، لكنها كانت بعيدة كل البعد عن كونها المؤسسة الرئيسة لصنع السياسات المالية والاقتصادية للبلاد"، ما ترتب على إدراك علاوي بمدى خلو الوزارة من مهاراتها وقدراتها خلال سنوات.

جميع الأفواه مفتوحة.. وعلى المالية "ضخ الأموال" باستمرار

بينما يستعرض وزير المالية المستقيل علي علاوي إجراءاته لإصلاح الوضع المالي وإدارة الوزارة ومواردها البشرية عمومًا، ومعالجة "توقعات الدوائر الحكومية والبرلمانيين والجمهور" الذين كانوا في حالة إنكار لخطورة الأزمة المالية في عام 2020، وتوقعوا القدر نفسه من الدعم والامتيازات من الموارد العامة، كانت الضغوط متواصلة للحصول على الأموال من جميع الأطراف بإصرار وشدة.

ومع تعافي الاقتصاد في 2021، ظهرت مشكلة ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم وارتفاع الأسعار عالميًا، وكل هذا كان يحدث في بيئة عمل مليئة بـ"الضغوط السياسية المستمرة من الأحزاب والبرلمانيين ومظاهرات الشوارع والمتصيدون بمواقع التواصل والمطالبات المستمرة بالحصول على الأموال، والتهديد بإقصائي واستجوابي بالبرلمان، وكانت عملية مرهقة ومحزنة"، بحسب وصف علاوي.

علاوي مصدوم: الإصلاح غير ممكن

وفيما يؤكد وزير المالية العراقي المستقيل، أنّ الحكومة نجحت نسبيًا على صعيد الإدارة المالية، إلا أنه يعترف بأنه "من الصعب إجراء تغييرات وإصلاحات اقتصادية كبيرة على أساس مستمر ومستدام في ضوء ما وصفه بـ"اقتصادنا السياسي"، مضيفًا: "يجب أن اعترف أنني لم أتوقع التدهور المروع في معايير الحوكمة في بلدنا على مدى السنوات الخمسة عشرة الماضية"، وأن كل "شيء يتآمر لإحباط أي تغيير حقيقي وترسيخ استمرار الممارسات الفاسدة التي تدمر الأسس الاخلاقية والمالية للبلد".

كذلك، وصف علاوي ملف قضايا فساد الدفع الالكتروني "بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير" بالنسبة له، وبينما وصفها بأنها ليست نادرة، إلا أنها "عكست لجميع الأطراف مدى الخلل بالمنظومة وبلورت الدرجة التي تدهورت عندها مكانة الدولة وأصبحت ألعوبة للمصالح الخاصة".

الأخطبوط وصل لكل القطاعات.. ويجب تفكيكه بأي ثمن إذا بقي البلد على قيد الحياة

وتحدّث علاوي عن "شبكات سريّة واسعة من كبار المسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين وموظفي الدولة الفاسدين في الظل للسيطرة على قطاعات كاملة من الاقتصاد وتسحب مليارات الدولارات من الخزينة العامة"، مؤكدًا أنّ "هذه الشبكات محمية من قبل الأحزاب السياسية الكبرى والحصانة البرلمانية وتسليح القانون وحتى القوى الأجنبية"، وتحافظ على صمت المسؤولين الأمناء بالتهديد والقوة والخوف.

ولم يبق أي قطاع من قطاعات اقتصاد الدولة لم يصله هذا الأخطبوط الهائل من الفساد والخداع، بحسب علاوي، الذي يقول إنه "يجب تفكيكه بأي ثمن إذا كان مقدرًا لهذا البلد أن يبقى على قيد الحياة".

ووضع علاوي القضاء على "المحك"، قائلًا إنه "يحدوني الأمل بأن يتبع قضاة التحقيق في قضية بوابة عشتار الخيوط أينما تذهب لتكون بادرة خير لإعادة الثقة بالمنظومة".

الفساد يزدهر لأن النظام متصالح معه.. 7 إجراءات لا معنى للإصلاح دونها

مثلما أصبحت مفردات "الفساد والإصلاح" مفردات مملة للكثير من العراقيين، وفضفاضة وغير مؤثرة، يعتقد علي علاوي كذلك أيضًا، قائلًا في خطابه للكاظمي، إنّ "لا معنى للحديث عن الفساد كاختصار لمشكلات الاقتصاد، فهو النتيجة النهائية للعملية وليست بدايتها ويمكن وصفه بالسرطان الذي يقتل الجسم"، مبينًا أنّ "الفساد يزدهر في العراق لأن النظام يتسامح معه ويسمح له بالازدهار والنمو".

واعتبر علاوي أنّ "معالجة الفساد غير كافية من خلال زيادة الكلام ضده، وإنشاء المزيد من هيئات التحقيق وإدخال المزيد من الاجراءات العقابية".

ويرى علاوي أن ما يجب القيام به، هو "إعادة بناء قدرات الدولة لمنع انتشار الممارسات الفاسدة، وإصلاح الدولة بشكل جذري من خلال تقليص الإجراءات والقوانين والممارسات التقليدية، وتطوير صفات ومهارات المديرين المتوسطين والمتقدمين في الدولة بشكل جذري، وإزالة الحماية التي تمنحها الأحزاب السياسية ورؤساؤها للأفراد الفاسدين والممارسات الفاسدة، وتدمير ثقافة الجشع والتسيب والإفلات من العقاب، التي تسمح بازدهار الفساد، وضرورة إزالة الغموض الذي يميز القرارات الحكومية بشأن النفقات والاستثمارات، إذ يزدهر الفساد نتيجة صفقات تنظم في الظلام وعدم الانفتاح والشفافية".

وتحدث علاوي عن نقطة رئيسية يجب الأخذ بها قبل كل شيء، وهو ضرورة "التراجع عن نظام السعر المزدوج الذي يسمح بالفساد، أي أن هناك أسعار مزدوجة لنفس المنتج أو الخدمة في جميع أنحاء الاقتصاد، وهناك أسعار السوق ومن ثم أسعار تحددها أوامر إدارية أو لجنة وزارية لا علاقة لها بأسعار السوق، وهذا يؤثر على أسواق الأراضي والإسكان والوقود والمواد الغذائية الأساسية والعملة والصعبة وغيرها، مضيفًا: "لقد قيل خطأ إن هذا النظام يساعد الفقراء، لكنه في الواقع تكاليف باهظة ويشجع الفساد أينما توجد أسعار مزدوجة وهناك طرق أفضل وأكثر فاعلية لمساعدة الفقراء دون هذه التشوهات الهائلة التي تدمر عمل الأسواق"، ولعل علاوي يشير بما يصفه الأسعار المزدوجة إلى وجوب "رفع الدعم الحكومي عن كل شيء"، حيث أنّ الدعم الحكومي يفيد الميسورين أكثر من الفقراء، ولا سيما في الكهرباء والوقود التي يستهلكه أصحاب السيارات الثمينة أكثر من غيرهم من الفقراء.

دولة "الزومبي" تعيش طويلًا قبل أن تُدفن

بالرغم من استعراضه لعدد من النجاحات النسبية التي يرى أنّ الحكومة الحالية قد حققتها، إلا أنّ علاوي يعترف بأنّ "الحكومة لم تكن قادرة على تحقيق درجة من الاستقلال عن الجماعات السياسية الرئيسية، كما لم تتحرر الدولة ككل من سيطرة الأحزاب السياسية وجماعات المصالح الخارجية، وهذا كان مصدر قلق لي".

ويضيف بأنّ "الفساد وحش متعدد الرؤوس وقد حفر في السنوات العشرين الماضية جذورًا عميقة في البلاد"، مبينًا أنه "تم تحريف النظام البرلماني الذي تم تقديمه عام 2005 من أجل خدمة مجموعات المصالح الخاصة، وتقويض الدولة ومؤسساتها، ولقد سمح بالاستيلاء على الدولة من قبل مجموعات المصالح الضيقة، وأن إصلاح هذا النظام بتعديل دستوري أو دستور جديد أمر ضروري".

رأى مراقبون أنّ نص استقالة وزير المالية العراقي سيعزز من القناعة بعدم إمكانية إصلاح نظام العراقي السياسي

ويقول وزير المالية العراقي: "على عكس البشر، لا تموت الدول بشكل نهائي، ويمكن أن تبقى دول الزومبي لسنوات وعقود قبل أن يتم دفنهم"، والدولة العراقية التي ولدت بعد غزو 2003، تظهر عليها "علامات مرض عضال، الحساب والعقاب لا يشمل الزعامات الكبيرة والقوى الأجنبية تؤثر بشكل مباشر على المؤسسات الحيوية، وتقف وراء تعيين شخصيات رئيسة في الحكومة"، معتبرًا أنّ "العراق يواجه واحدة من أخطر التحديات التي واجهتها أي دولة في القرن الماضي".

شهادة وفاة رسمية للنظام

رئيس مركز التفكير السياسي، إحسان الشمري، وصف نص استقالة علاوي بأنه "شهادة وفاة رسمية لهذا النظام الفاسد"، ومن قبل جهة رسمية متمثلة بوزير المالية.

ويضيف الشمري في حديث لـ"ألترا عراق"، أنه "دائمًا ما نتحدث عن هذه الأمور وسيطرة زبانية الأحزاب السياسية على مفاصل الدولة ومواردها، لكن لا يتفاعل أي أحد بشكل جدي معها".

وبينما اعتبر الشمري أنّ "التفاصيل التي تحدث بها علاوي ليست خافية على الصدر والأطراف الأخرى التي تضع العملية السياسية في دائرك الاستفهام، لكنها ستعزز من مطالبه وحراكه".

ويشير إلى أنّ "نص الاستقالة يكشف ماوصل إليه النظام من مراحل وتداعيات سيكون لها أثر كبير في التفاف وغضب المزيد من الفئات خارج أتباع التيار الصدري"، معتقدًا أنها "عززت القناعة بأن هذا النظام لا يمكن أن يستمر".

وبالرغم من أنّ دعوات الإصلاح وإنهاء النظام صدرت وتبنته جهة سياسية متمثلة بالتيار الصدري، لكن الشمري يعتقد أنّ "ورقة الاستقالة ستكون أحد المبررات التي سيرفعها أتباع التيار الصدري خصوصًا وأنها صدرت من جهة رسمية".

وينفي الشمري وجود أي أمل بتفكيك الشبكات السرية التي تحدث عنها علاوي، طالما "بقيت الطبقة السياسية الحالية، المعتاشة والجاثمة على النظام ومسيطرة على الأموال والعملية السياسية، ولن تفكك هذه الشبكات العميقة بعمق الدولة

 ولها ارتباطات بدول وشركات ورؤوس أموال بلا ثورة شعبية جذرية تستهدف الطبقة السياسية بالكامل ولن تكون أي إجراءات ناجحة أو فاعلة بلا التغيير الشامل للنظام وعناصره".

وفي مثال بسيط على فساد ملف "الدفع الالكتروني"، الذي وصفه علاوي بأنه "القشة التي قصمت ظهر البعير"، يلخص الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي بالأرقام عقد شركة بوابة عشتار والتي تبلغ أرباحها أكثر من 500%؜ مقارنة برأس المال، ولا يستغرق استرجاع رأس المال أكثر من شهرين.

يقول المرسومي في إيضاح اطلع عليه "ألترا عراق"، إنّ "القشة التي قصمت ظهر البعير والتي عجلّت باستقالة وزير المالية، قيمة عقد شركة عشتار والبالغ 60 مليون دولار، ومعدل الربح السنوي 350 مليون دولار، تبلغ الأرباح المتراكمة خلال مدة العقد 7 مليارات دولار".

ويبلغ معدل العائد / الاستثمار = 583%؜، وفترة استرداد رأس المال شهران فقط"، خاتمًا القول بـ"هذا هو الاستثمار في زمن الفساد".