16-يونيو-2019

الفنّانة أمل القحطاني

تسلمت وظيفتي الجديدة في مستشفى وسط بغداد، أحدهم أحيل للتقاعد وسوف أتسلم زمام الأمور من بعده، اخبرني المحال للتقاعد وهو يحزم امتعته ويفرغ لي الدولاب الحديدي بأن الأمر بسيطًا ولا يستحق مجهود كبير، وهذه كما تعرف مستشفى لا تعرف الجثث، أنها مستشفى ولادة وأنت لست طبيبًا هنا، أنت منظف في جناح العمليات، كن بخير هذه غرفتك من الآن، خرج العجوز ومضى على وجودي هنا ثمانية أشهر.

هذا المكان يعم بالهدوء فعلًا، أجزم القول بإنه أهدأ من بغداد التي لم اعد المح وجهها من كثرة الجثث مجهولة الهوية والموت المجاني، لا جثث هنا ولا دماء غير تلك التي أحملها مع بعض الأقمشة المتسخة وأغطية الأسرّة بعد إتمام كل عملية ولادة.

غرفتي في نهاية جناح الانتظار، دائمًا ما أشاهد  الحوامل يمشين في هذا الممر جيئة وذهابًا بشكل منتظم، عرفت بعد ذلك بأن هذا الأمر ضروري بعض الأحيان ويسهل من عملية أنزال الجنين.

لكن هذه المرأة لا تتحرك من مكانها  مثل البقية، يبدو من ملامحها أنها في بداية الخمسين تجلس على كرسي في صالة الانتظار، وجهها دائري منتفخ ملفوف  بفوطة سوداء بسيطة، التجاعيد على وجهها الصنمي الجامد  منحوتة بعناية فائقة، تشعر أن أحدهم صفعها بقوة على وجهها، والتصقت خطوط يده على خدودها، لا يبدو أنها تشعر بأي ألم أو وخز للحمل، بطنها منتفخة، يدها اليمنى تهرش بشكل منتظم ودون توقف قرب منطقة السرّة، تقطع تأملي رجاء، الممرضة المساعدة في صالة العمليات، تنادي بصوت في غرفة انتظار النساء "تغريد جاسم كريم".

تغريد جاسم كريم، لكن دون إجابة، يحدث هذا أحيانًا مع المتزوجات حديثًا فهن يخشين ويشعرن برهبة من الولادة، شاهدت نساء كثيرات يهربن حتى بعد دخولهن للعمليات. تغريد جاسم كريم، تكرر رجاء الاسم، لتقوم تغريد هي ذاتها الخمسينية الصامتة دون أن ترد على رجاء حتى بكلمة نعم، تقوم بصمت، تتحرّك بشكل طبيعي وتسير أمام رجاء لصالة العمليات كأنها ذاهبة إلى مطبخ منزلها، تدخل تغريد ثم رجاء ثم طبيبة الولادة ويغلق الباب، انسحبت أنا بهدوء مثل الأيام الأولى التي عملت فيها، كنت أطمح بمشاهدة عملية الولادة  أو ربما بأجساد النساء بشكل مباشر، لكني كنت حذرًا أن يلمحني  أحدهم ويتسبب لي بمشكلة كبيرة، يفصل بيني وبين تغريد ورجاء والطبيبة  بابًا خشبيًا سميكًا بنافذة مستطيلة شفافة، كنت أدفع زاوية عيني برهبة وخوفًا لألمح ما يحصل. ترفع رجاء سيقان تغريد وتفتحمها، ترتدي الطبيبة قفازات بيضاء، وتمد يديها بين ساقي تغريد الخمسينية، لا شعور من رجاء ولا حركة، تبدو كأنها ماتت لولا عيونها التي تفتح وتغمض بشكل طبيعي جدًا، تحرك الطبيبة  يدها وتدفعها إلى الأمام أكثر وكأنها تبحث عن شيء داخل جوف تغريد.  

تهتز الطبيبة وكأن شيئًا ما لدغها  وتنظر لرجاء الممرضة المساعدة بغرابة وخوف!. الاثنان ينظران لوجه تغريد الخمسينية التي تبدو عليها الكثير من علامات الاستفهام والغرابة، تعيد الطبيبة يدها وتسحبها ببطء وصعوبة كبيرين، تطلب من رجاء أن تفتح لها ساقي المرأة أكثر، تحاول مرة أخرى، وتعيد السحب بقوة أكبر، لكن لا جنين في بطن تغريد ولا طبيبة في الغرفة.

ورجاء تنام على الأرض فاقدة للوعي، بينما تغريد تتقدم نحوي برأس شاب  مقطوع في العشرين من عمره، قالت لم أصدق بأنهم ذبحوا  ولدي منذ عامين ولم أصدق بأني فشلت في إعادة ولادته من جديد.

 لا معجزات في هذا الوقت، لا أحد في وقتها أنقذ ولدي

 تصرخ صرخة مدوية ويسقط الرأس على البلاط ليرتطم بقوة، بينما أنا أنظر لظلي المنعكس على الأرض وجدته يدعك عيونه وينظر لي كأنه غير مصدق لما حدث.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خيّاطُ الأرواح

العجوز والأم

دلالات: