07-ديسمبر-2022
أمريكا وإيران

نخبنا السياسية العراقية احترفت الجدل المنطقي الفارغ (فيسبوك)

في عالم أحادي القطبية، ومٌقَسَّم نفوذه بشكل دقيق، ويعد الجزء الأبرز منه عبارة عن "مجال حيوي" للقوى العظمى، يبدو فيه الاختيار معدومًا، ذلك أن الدول الطرفية لا تملك ترف الاختيار على الإطلاق، وإن حاولت، ستغدو أثرًا بعد عين. في عالم قائم على الهيمنة، لا سبيل إليك سوى السير في ركاب التوازنات، والعمل، بأقصى ما يمكن، على الهامش المتاح لك، و"اختيار" النموذج الذي يتمتع بحوافز مجزية، خصوصًا إذا كان هذا النموذج يحظى بقبول واسع كنموذج الولايات المتحدة.

مخاطر تصدير الثورة الإيرانية يشكل هاجسًا مقلقًا لدى عموم العراقيين ولا يُعَد نموذجًا مقنعًا وحافزًا مغريًا للأجيال الجديدة

لذا، لا يبدو الأمر محيرًا ومتناقضًا، بخصوص تلك الميول الحادة لدى الكثير من العراقيين، بالترحيب بكل ما هو أمريكي، في حين يتحرك لديهم نفور غريزي، وفي بعض الأحيان شديد العدوانية تجاه السياسيات الإيرانية، وبالخصوص في السنين التي تلت سقوط نظام البعث على يد الاحتلال الأمريكي. حتى لو كان الأمريكان هم الطرف المساهم في جعل العراق منطقة مفتوحة للجانب الإيراني، لكن يمضي مؤشر التفضيلات عند الأجيال الجديدة نحو النموذج الأمريكي!

 نفور سنة العراق، مثلًا، لا يخلو، في جزء منه، من إشارات طائفية، نتيجة العداء المذهبي التاريخي. بيد أن مخاطر تصدير الثورة الإيرانية، يشكل هاجسًا مقلقًا لدى عموم العراقيين، ولا يُعَد نموذجًا مقنعًا وحافزًا مغريًا للأجيال الجديدة.

لقد امتدت واستطالت، هذه الميول الحادة، لتشمل قطاعات واسعة من الجمهور الشيعي، الذي كان يتعاطف مع الجمهورية الإسلامية فيما مضى. فبالتالي، لم تعد مشاعر الاستياء يغذيها فقط الجانب الطائفي، بل ثمة وعي سياسي يتنامى لدى عموم العراقيين، دافعه الحرص على هويتهم الوطنية ومصالحهم الحيوية. هذه المشاعر هزتّ عموم العراقيين، وألقت بظلالها على عراق ما بعد 2003.

 لقد كان شعار "إيران برّة برّة" الذي أطلقته جماهير، وبحسب الخارطة المذهبية، ذات أغلبية شيعية، ومنهم "التشرينيين" على وجه الخصوص في انتفاضتهم الوطنية، لهو الحدث السياسي الأبرز في "العراق الجديد". ويشير بشكل بارز، أن الأجيال الجديدة تحمل على عاتقها بشائر ولادة هوية وطنية، رغم تعثرها وتعرضها لقمع شديد القسوة، تلتحم عناصرها وتُرسَم حدودها من داخل البلد، بمعزل عن أي وشائج دينية أو مذهبية عابرة للحدود. ولذلك نجد جمهورًا شيعيًا واسعًا، ينمو بشكلٍ مضطرد، يقف بالضد من السياسيات الإيرانية تجاه العراق، حتى وإن كان متعاطفًا معها مذهبيًا.

اتضح لهذه الأجيال، الدينية منها والدنيوية على حد سواء، أن الجمهورية الإيرانية لا تتمتع بالنموذج النافع والحوافز المغرية. وما نشاهده من تفضيلات، ومقارنات بين عموم العراقيين حول هذه القوة أو تلك، يدلنا بما لا يقبل الشك، أن الناس تبحث عن نموذج ملموس، وحوافز مقنعة، وميل غريزي، نحو من يمتلك القوة المتكاملة (سياسية، اقتصادية، عسكرية، ثقافية). هذه القوة الأمريكية المهولة، أفرزت لنا دولًا رائدة في الإقليم الآسيوي، دون أن نذكر المجهود الذاتي لهذه الدول. ولا ننسى الاشتراط الأميركي مقابل حماية هذه الدول: وهو أن تتحول طوقًا عازلًا تجاه التمدد الصيني. هذا هو الثمن الذي ينبغي على الأعضاء دفعه مقابل الدخول في هذا النادي الكبير، والحصول على نموذج عملي نافع وحوافز إضافية. فأنت في نهاية المطاف لا تمتلك ترف الاختيار، و"ستختار" النموذج الأقوى والأقدر على توفير الحوافز.

إنّ عموم البلدان المطلّة على المحيط الهادئ، لا تفرّط بالنموذج الأمريكي، خوفًا من ابتلاعها من قبل التنين الصيني الصاعد، لذلك تتجه بوصلة تفضيلاتها تجاه القوة الأولى في العالم ذات الحوافز المغرية. في حين تتجه بوصلة النخب السياسية العراقية على العكس تمامًا، ولا تضع مسافة فاصلة بين الحميميات المذهبية والأمن الوطني العراقي. لقد اختارت النموذج الأضعف مقارنة بالقوة الأمريكية المهولة.

 وعلى الصعيد الأوروبي يكفي أن نذكر أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وكيف استطاعت الولايات المتحدة إعادة بنائها عن طريق مشروع مارشال. وكيف نشاهد الآن التصدع الأوروبي في الحرب الروسية الأوكرانية، لكنها لا تستطيع التخلي عن حلف الناتو.

فلنتخيل القارة الأوروبية "العجوز" بمعزل عن الهيمنة الأمريكية صاحبة القرار الأول في حلف الناتو، كيف سيتم ابتلاعها من قبل النموذج الروسي الذي لا يمتلك الحوافز الكافية والقوة المتكاملة لكي يغدو نموذجًا مقنعًا. وبما أن "الابتلاع" يخضع هو الآخر لتفضيلات ومقارنات، فاختارت النخب العراقية ابتلاع النموذج الإيراني مفضلة إيّاه على الغول الأمريكي.

الولايات المتحدة تتمتع بقدرة فائقة على التنقل في أي مكان، وبسرعة استثنائية، وتمسك بقبضتها الحديدية على البحار، والمحيطات، والمضائق، وتتوزع أساطيلها في أكثر مناطق العالم حساسية: أوروبا، وآسيا، والخليج العربي. ويبدو العالم بالنسبة لهذه الدولة العظمى ناديًا كبيرًا تشرف عليه بدقة متناهية. ويطمح معظم الأعضاء أن يكونوا أعضاء أوفياء وملتزمين بهذه العضوية لضمان الأمن والاقتصاد.

دول مجهرية وذات نسب سكانية قليلة، الكيان الصهيوني مثالًا، كان سيتبخر، على الأرجح، في عالم ما قبل الحرب العالمية الثانية لولا هذه العضوية في هذا النادي الكبير.

إن الولايات المتحدة لم ولن تسمح لأي قوىً إقليمية عظمى بالظهور: ظهرت اليابان، وألمانيا، كقوىً إقليمية عظمى، وظهر الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى منافسة للزعامة الأمريكية، فسارعت إلى تحطيمهم واحدًا تلو الآخر. ومنذ ذلك الحين تتسيد أمريكا عرش الدولة الأولى في العالم.

 وبالطبع لا يمكن التفريط بمثل هذه القوة العظمى، التي تحكم قبضتها على معظم أرجاء المعمورة، مقابل قوىً إقليمية لم يقنع نموذجها سوى المرتبطين بها أيديولوجيًا.

إن أقصى ما يتطلع إليه الجيل الجيد، هو العمل بسياسات حسن الجوار والبحث عن المصالح المشتركة، فما عدا هذا ليست ثمة تفضيلات أخرى تجعلهم يفضلون الجمهورية الإسلامية على الولايات المتحدة. الجيل الذي لم تخترق ذاكرته الخطابات الأيديولوجية ذات النزعة الكفاحية. أكثر من ذلك: بل حتى الأجيال الإيرانية الجديدة لم يعد يعجبها هذا النموذج ويثير اهتمامها بقدر ما يثر استيائها.

لكن ساسة "العراق الجديد" لم ولن يفهموا هذه المعادلة. وهم أنفسهم يدركون جيدًا مدى أهمية الجانب الأمريكي، وديمومتهم الحتمية وارتباطهم بهذا المصير، ويعلمون جيدًا أنهم لا يمتلكون ترف الاختيار، غير أن معاداة أمريكا أخذت منحى تسويقيًا مبتذلًا، ليس له وقائع ملموسة على أرض الواقع، سوى شعارات حماسية هي إلى الخطابات البلاغية الجوفاء أقرب منها للسلوك السياسي المقنع.

 وبصرف النظر عن الاستغراق في التفاصيل. لكن بودي التركيز على مقاربة واحدة يمكنها أن تختزل المشهد، وأعني بها بالضبط، مثلما ذكرنا أعلاه، تصدير النموذج العملي النافع.

إن الولايات المتحدة أذاقت العراق مرارة حصار شديد القسوة. وكان وقع هذا الحصار ثقيلًا على الشعب العراقي، أنه حصار شديد الشراسة والعدوانية، وخالٍ من أي رحمة، ساهم في تمزيق النسيج الاجتماعي. ونحن الجيل الذي لم يقتنع بفضيلة النسيان، ظل هذا الحدث الكئيب يلقى بظلاله على وجداننا السياسي حتى هذه اللحظة.

بيد أن الأجيال الجديدة ليست معنية بهذه "الضرورات" بقدر ما تتطلع إلى ممكنات واحتمالات جديدة للحياة، وبالطبع سوف لا تكون الجمهورية الإسلامية موضوعًا مغريًا لتطلعاتهم على الإطلاق، ولا يشكّل لهم ضرورة بقدر ما يحاولون الانفتاح على ممكنات جديدة. إنهم بانتظار النموذج العملي الملموس من القوة الأولى في العالم، وذات الخبرات الطويلة في إدارة المؤسسات الدولية. في حين لا ينتظرون شيئًا من النموذج الإيراني، لأنه، وببساطة شديدة، لا يثير إعجابهم، ولم يوفر لهم الحوافز المغرية.

ليست المسألة هنا أن الولايات المتحدة "خيّرة"، والجمهورية الإسلامية "شريرة"، ذلك أن التعاطي مع قضايا السياسية ينبغي أن يكون عابرًا لثنائية الخير والشر، ولا يتعدى فكرة المصالح المشتركة والنموذج العملي الملموس، والحوافز المغرية. فالناس لم تعد تفطر وتصوم في مطابخ الأيديولوجيا، وهذا ما لم يفهمه، أيضًا، القائمون على الشأن الإيراني.

لم يعد النموذج المذهبي نموذجًا وحافزًا مغريًا، بقدر ما يسحر الناس إشباع رغباتهم الاستهلاكية، والتطلع إلى نموذج القوى الناعمة التي برعت بها الولايات المتحدة وأظهرت هيمنة غير مسبوقة: هوليود، كنتاكي، ماكدونالد، الجينز، البوب، الراب، وغيرها. باختصار: إنه نمط الحياة الأمريكية الذي يتمناه الجميع، والنموذج "الساحر" الذي تحاول تقليده حتى بعض النخب السياسية الآسيوية والأوروبية بشهادة (زبغنيو برجنسكي).

لقد عجز العمق الثقافي والحضاري الإيراني أن يتحول إلى نموذج، وحافزَ إيجابيٍ لتصديره كقوة ناعمة، وظلت الجمهورية الإسلامية وفية لنموذجها الثوري، الذي خبرناه في العراق، وسوريا، بوصفه القوة الوحيدة التي تمكّنها من بسط هيمنتها على دول المنطقة حفاظًا على أمنها القومي.

لذلك تقبع الفنون، والآداب الإيرانية الزاخرة، والغنية، في زاوية مظلمة، ولم يستطع الإيرانيون فرض هذا النموذج في المشرق العربي بالتحديد. وهذه القطيعة تشكل علامة بارزة على فشل تصدير النموذج الإيراني والاقتصار على الجانب الثوري العزيز عل قلوب النخب الإيرانية.

 وقد يجادل البعض في هذا التعميم المجحف تجاه النموذج الإيراني، كونه ليس المسؤول المباشر، وكون الولايات المتحدة هي عامل الخراب الأبرز في العراق وسوريا.

لكن مثل هذه الصيغ الجدلية تعزز فرضية النموذج الفاشل! بوصفه نموذج متحمس، لم يراعِ تراتبية ميزان القوى، وهذه المشاغلة الإستراتيجية (إن صح التعبير) من قبل إيران دفعت من خلالها الدول المعنية أثمانًا باهظة، يوم استفزت النموذج الأميركي، وحلفائه في المنطقة، هذا النموذج المتعطش دوماً لسحق الخصوم بأي ثمن كان، حتى لو كان ثمنًا بوزن قنبلة ذرية، وتاريخ اليابان ليس ببعيد. وفي النتيجة سيميل ميزان القوى والتفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي والثقافي لصالحه بكل تأكيد، وسترجّح الناس كفته بأي حال من الأحوال.

لم يعد النموذج المذهبي نموذجًا وحافزًا مغريًا بالنسبة لهذه الأجيال العراقية الحديثة

 على أي حال، هل تاريخ الاتحاد السوفيتي بعيد لدرجة أن نخبنا السياسية لم تأخذ منه المزيد من العبرة، كما لو أنهم استثناء من ذلك كله؟ قوة عسكرية مرعبة، وتكنولوجيا فضاء متطورة، لكنها لم تستطع صناعة حذاء! كان المؤشر البياني يشير إلى نهم لا يشبع إلى التسليح، يقابله اقتصاد نخرته المركزية نخرًا. لقد لاحظت روزا لوكسمبورغ عن حق، أن الموجود في الاتحاد السوفيتي ليس ديكتاتورية البروليتاريا وإنما بيروقراطية حزبية.. ساهمت في إخفاق هذا النموذج. مما رجّح، لاحقًا، كفة النموذج الأمريكي "الساحر".

القضية، إذًا، في وجدان الأعم الأغلب من الناس، تتمحور حول صراع النماذج؛ فالنموذج المبنى على الأقيسة الصورية المنطقية الجوفاء، والذي يتخذ من الجدل الفارغ مادة خصبة للتفكير والسلوك، لهو نموذج فاشل بكل معنى الكلمة. نموذج لا يأخذ بنظر الاعتبار تطلعات الأجيال الجديدة بقدر ما يمعن في نزوعه السلطوي حتى لو كانت كلفته خراب البلد.

إن نخبنا السياسية العراقية احترفت الجدل المنطقي الفارغ، نخب استندت على بسط هيمنتها في "العراق الجديد" على "هِبات" الأمريكان، في حين تتجه أفئدتهم نحو الجمهورية الإسلامية التي لا تساوم على أمنها القومي حتى آخر رمق.

وفي النهاية، لا تفطر الناس على عسل الوعود الكاذبة بقدر ما تبحث عن حوافز مجزية. وينبغي على النخب السياسية أن توفر النموذج والحوافز المجزية لتقنعهم على الأقل بجدوى أهمية الحميميات المذهبية. بإمكاننا أن نجادل ونستنجد بشعاراتنا العزيزة على قلوبنا، لكن في النهاية: دبابيس الواقع أمضى من كل فقاعة.