17-سبتمبر-2020

جرت عملية تخوين كبيرة لمجرد المطالبة بالتنظيم (Getty)

منذ حراك "المدنيين" وحتى هذه اللحظة، كان المنخرطون في الاحتجاجات متشابهين من حيث الشعارات: ديمقراطية، حرية، عدالة مساواة، تعددية، الخ.. لكن ظلّت هذه الشعارات تتقافز على السطح ولم تتمكن من اختراق أعماقنا ولم تتحول إلى سلوك. ذات الشعارات ساهمت في تفرقتنا وتشرذمنا، وبالتأكيد لا ننسى قسوة السلطة وجبروتها، لكنها حكاية أخرى أشبعناها كتابة. أتكلم هنا عن طبيعة العلاقات التي ميّزت شباب الاحتجاج، إذ السمة الغالبة عليها هو فقدان الحوار وغياب الثقة. بعبارة أدق: لم توحدنا هذه الشعارات، فعلى الأرجح أنها لم تكن شعارات نؤمن بها، غاية الأمر ومنتهاه، أنها كانت شعارات للتميز فحسب. والتميز ليس سلوكًا سلبيًا، بقدر ما يكون أحد أسباب الفشل لو تعاملنا معه بصورة سطحية، ذلك أن التميز يعني وضع حد فاصل بين المعارضة والسلطة؛ فالأولى، من حيث المبدأ، تبحث عن العدالة والحرية، والثانية تسلبها، غير أن الواقع أثبت عكس المطلوب!

لا زالت صورة "الشيخ" تداعب خيال الفرد العراقي، فهو لا يقبل من يتسيّد عليه

وبشيء من الإنصاف يمكن القول إن حداثة التجربة، والتعايش الطويل في ظل الاستبداد، أنتج لنا مجتمعًا متناقضًا مع نفسه، يتخذ من العدائية منهجًا وسلوكًا للتعامل مع الآخر. إلّا أن الأنصاف لا يمنعنا، كذلك، من الإشارة إلى مناطق العطب في توجهاتنا السياسية وعدم أخذ العبرة من الاحتجاجات الماضية، بل كان شعارنا "كلما جاءت أمة لعنت أختها"، وكانت السمة الغالبة هي عدم التعلم من أخطاء الماضي. التحدي الأكبر الذي يواجه كل حركة احتجاجية هو التشرذم والفرقة والميل إلى الاستبداد في "حواراتنا" مع الآخرين؛ تظهر الحشود في ساحات الاحتجاج كما لو أنها كتلة واحدة، لكنها في العمق عبارة عن جماعات مُشتَّتَة. في التحليل الأخير وبعد التأني لمراقبة المشهد، يظهر لنا أن ما نعيبه على السلطة لم نتخلّص منه، إذ كانت احتجاجاتنا الأخيرة مجموعة من الخيم المنتشرة في محيط ساحة التحرير، لكنها لم تستطع جمع الكلمة وتوحيد الشعارات. تحولت الخيم إلى برلمانات متناثرة لا يجمعها سوى الحماس، لكل خيمة سلطتها الخاصة وحرسها الخاص، وأدبياتها الخاصة! بيانات متفرقة، وممانعة ورفض من خيم أخرى، أنها حرب بيانات قوامها التخوين والاتهام، ولم يستطع المحتجون من توحيد الكلمة، فانخرطوا في قضايا جانبية لم تصب في صالح الاحتجاج.

اقرأ/ي أيضًا: عن معجمنا "الثوري" الجديد

معظم الإجابات التي سمعناها لتبرير هذا التشرذم، هو حداثة التجربة، خصوصًا أن روّاد الاحتجاجات الأخيرة كانوا من فئة الشباب. وهذه الفئة هي أقرب للحماس منها إلى العمل المنظّم. معلوم أن كل حركة احتجاجية يغلب عليها طابع الحماس والانفعالية واللاعقلانية، فالحشود الجماهيرية ليست وظيفتها عقلنة العمل الاحتجاجي بقدر ما تسعى لتثويره لأقصى درجة ممكنة، ثم يأتي دور النخب لوضع الأمور في نصابها. غير أن الشباب كان لهم رأي آخر! فقد صنعت هذه الحشود صورة كاريكاتورية بائسة للمثقف العراقي، ألهبت خيالهم للتندر والتهكم عليه حتى لو كان متحمسًا لهذا الحدث الاحتجاجي، ووضعوا المثقفين كلهم في سلّة واحدة. لقد تم إقصاء المثقف من هذا الحدث المهم واجترار بعض المحفوظات، من قبيل أن المثقف العراقي مثقف سلبي، وأنه يسير في ركاب السلطة، وأنه شاعر حالم. وهذه الدعاوى لها ما يبررها، لكن من الإجحاف تجاهل بعض المثقفين الذين كانوا متحمسين لهذه الاحتجاجات، فقد قُذف بهم في الهامش، ولم يعد أحد يجرؤ لمعارضة دكتاتورية الأغلبية!

لقد جرت عملية تخوين كبيرة لمجرد المطالبة بالتنظيم! وجن جنون سكّان مواقع التواصل الاجتماعي لتفريغ حمولتهم الجاثمة على قلوبهم. لقد انتشرت عدوى الاتهام كما النار في الهشيم في أروقة الخيم، وكان الحماس المبذول لهذا الكفاح أكبر بكثير من الحماس المبذول لفكرة التنظيم! ودائمًا ما نبرر ذلك بحداثة التجربة، وبرأيي أن الموضوع أبعد من ذلك: سياق ثقافي مضطرب لا يجيد حتى التصالح مع نفسه! لا زالت صورة "الشيخ" تداعب خيال الفرد العراقي، فهو لا يقبل من يتسيّد عليه: علينا أن نغدو جميعنا شيوخًا لنثري ذاكرتنا الممانعة!

كأحد المواطنين المتحمسين لهذا الحدث المهم، كنت منساقًا لذم المثقف! لكني اكتشفت مقدار الخطأ: حينما تتصرف بطريقة كفاحية في الوقت الذي يحتاج الكثير من الجرع العقلانية. وكنت مخطئًا حينما حاولت عن طريق الأصدقاء المقربين الدعوة لحوار شامل مع أهل الخيم. وكنت مخطئًا حينما عبرت عن خشيتي من قوة الجماعات الممسوكة كمنافس سياسي شرس، غير أن ساحة التحرير كانت وادِ كبير تتصادم فيه الصرخات وتشتبك وترجع مرة أخرى على شكل أصوات غامضة، الصوت الوحيد الذي استطعت تمييزه هو كلمة "لا" لكل شيء!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

في التضامن السياسي

عن الذات المحاربة