24-سبتمبر-2021

لا يوجد تضامن بين المثقفين في العراق (فيسبوك)

في ميدان العمل الفكري خير لك أن تبقى وحيدًا خارج الوسط الثقافي. فالعلاقة مع هذا الوسط مكلفة للغاية وتسقطك في فخ المجاملة والحياء مع هؤلاء الأصدقاء الذين تكنّ لهم الاحترام والتقدير، ذلك أن الثقافة النقدية في العراق لم ترَ النور بعد! إذ لا زال معظمنا يربط النقد بكرامته الشخصية ويتلوّى ألمًا فيما لو وُجّهت له سهام النقد. لا أنكر أن المتوفر من هذه "الثقافة النقدية" ضئيل جدًا، وقد يتخذ البعض منه تبريرًا وغطاءً "منطقيًا"  لشرعنة الخصومات الشخصية والنيل من الآخر، مع الأخذ بنظر الاعتبار وجود المساحات الواسعة التي وفرتها مواقع التواصل الاجتماعي التي تعزز هذا السلوك المشين.

خير لك في العراق أن تبقى خارج الوسط الثقافي للفوز بحرية التفكير وتحسبًا لأي ملامة أو "زعل" من أحدهم

ولا أنكر أن النقد في مواقع التواصل يبقى نقدًا تافهًا بالمجمل، ليس لضحالة مضامينه، فربما تكون بعض النصوص المنشورة من قبل بعض الكتّاب شديدة العمق، بل لأنه يُكتب عادة لجمهور متهوّر لا يهتم بالمضامين العلمية قدر اهتمامه بالنيل من شخصية المثقف، باستثناء بعض الكتاب الذين يتمتعون بجمهور يعي هذه المطالب، ولا يسقطها في خانة المواقف الشخصية، لكنّه جمهور قليل على أي حال. وهؤلاء القلّة القليلة كما لو أنهم جزر متباعدة في محيط شاسع يصعب الوصول إليهم وسط هذه الفوضى. ومن هنا نقرأ بين الحين والآخر شكاوى بعض المثقفين من تردي الذائقة وقلة الفهم لدى قرّاء "فسيبوك"، حيث أصبحت هذه الواقع قدرًا لا بد منه، وبسبب هذه القدرية ابتعد بعض الكتاب من مناقشة القضايا المصيرية في مواقع التواصل الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: جدلية المثقف والجمهور

معظمنا يدين دور المثقف السلبي وعدم انخراطه في عملية التغيير. وبصرف النظر عن مدى قوة هذه الإدانات وما يرافقها عادة من توتر وأهواء نفسية تبتعد عن الموضوعية، يبقى السؤال راهنًا: هل هناك من يحترم المثقف لو تصدى لعملية التغيير،  أم أنه ستحصى عليه أنفاسه وسيكافح الشعبيون بتسقيطه مهما كان الثمن؟ المشكلة ليست بوجود الشعبويين، لأنهم يتواجدون دائمًا. المشكلة حينما يكون صوتهم هو الأعلى، حينما يشكلون أغلبية! في هذه الحالة على المثقف الملتزم (وهم قلّة على أي حال) أن يحترم نفسه وينسحب للخلف ليترك الفوضى على حالها، لأنه لا رأي لمن لا يطاع. هذا أوضح تبرير يمكننا أن نسوقه لصالح المثقف الملتزم بقضايا بلده السياسية، وهذا المثقف نفسه هو من يعاني من وسطه الثقافي الذي يخشاه أكثر من خشيته من سلطة الجهّال، ذلك أن المثقفين هم أعرف بدروب الحيل من غيرهم بشهادة هادي العلوي. إنه يتجنّب أي ملاحظة نقدية يجرح فيها كبرياء المثقفين.

لقد ابتعد بعض من هؤلاء المثقفين الملتزمين عن موقع فيسبوك خوفًا على سمعتهم وتحاشيًا لسلطة الجهل، لأنها سلطة لا يستهان بها على الإطلاق وتتمتع بتضامنات واسعة النطاق، إذ لا يحظى المثقفون، رغم ذكائهم العالي، بهذا التضامن ولا يمكنهم أن يُجمعوا، في العراق بشكل خاص، على كلمة أو يوحدوا خطابهم أو يكون لهم دور ملحوظ في تحريك الرأي العام لأسباب تتعلّق، من جهة، بطبيعة العراقيين وكراهيتهم الغريزية للمثقف نتيجة لتاريخنا السياسي والاجتماعي الذي لم ينتج سوى المثقف الحزبي، ومن جهة أخرى؛ عزوف المثقف العراقي عن العمل السياسي. وهناك مثقفون قلائل عزّزوا هذه القناعات الشعبية حيث ارتضوا لأنفسهم الانخراط مع السلطة كموظفين في دوائرها، وهذه القناعات يصعب فهمها، وتزداد الصعوبة حين يكون المثقف مستشارًا ثقافيًا ليس له أدنى تأثير، وفي الجانب الآخر يترك الساحة للإعلاميين، رغم أهميتهم بالطبع، للخوض بالقضايا المصيرية فيما يبقى مثقفنا في الهامش، ويسهم في تعزيز المعتقدات الشعبية ونظرتها السلبية تجاه المثقف.

 لكن لو استثنينا هذا المد الشعبوي الصاعد في العراق، واعتذرنا لبعض المثقفين الملتزمين، وتكلمنا من زاوية محددة، واختصرنا القول على أرباب الثقافة، فعلى الأرجح سنخرج بنتيجة مفادها: خير لك أن تبقى خارج الوسط الثقافي للفوز بحرية التفكير! تحسبًا لأي ملامة أو "زعل" من أحدهم. ولا أقصد الخوف على الأمن الشخصي فهذا أمر مشروع تمامًا للمثقف وغيره، بل التماهل فيه يندرج في خانة الجنون. وإنما أعني الصداقات الشخصية في الوسط الثقافي قد تتحول إلى حواجز ثقيلة وتحول بين المثقف وبين اشتغالاته الفكرية ومنها النقد على وجه الخصوص. وبتعبير آخر: يتحول النقد إلى مديح وثناء حد الإفراط  للتخلص من جرح كبرياء الأصدقاء! إذ تبقى النتيجة كما هي، أن المثقف الملتزم سيشعر بالضيق والحرج والارتباك كلما عزز علاقاته بالوسط الثقافي فسيكون، ربما، ضحية للحسد، والبغضاء، والتسقيط، حين يغدو شخصية مشهورة في الأوساط الشعبية والأكاديمية، فكيف إذا تعرّض لزملائه بالنقد؟ قد تفوق النتيجة كل توقعاتنا البريئة.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المثقف العراقي.. من الاستبداد إلى الاحتلال الأمريكي

جورج طرابيشي.. استفزاز المثقف بصدمته