20-أكتوبر-2020

حريق بغداد لا يحمي المنعزلين (Getty)

سال حبرٌ كبيرٌ عن الخطيئة التي ارتكبها الحاكم الأمريكي بريمر ومن جاء معه في ترسيخ الانقسام الطبيعي للمجتمع سياسيًا عبر المحاصصة وتهميش الهوية الوطنية في أقوال وأفعال النظام السياسي حتى صار القرارُ قرارات، والمركزُ مراكز، والجيشُ جيوشًا، وأخيرًا: الدولةُ دولًا.

ربما ظنّت بعض الأحزاب الكردية أن ضعف الدولة العراقية لن يصيبها بأذى، لكن صوت الصواريخ التي سقطت على أربيل كانت أعلى وأوضح من تلك الظنون

ساهمت النخبُ الكردية في الحزبين الرئيسين بإنشاء وتثبيت شكل النظام ما بعد 2003 مستحصلةً أكبر قدرٍ ممكن من الأموال والامتيازات والمناصب، مستفيدةً من تنظيمها وخبراتها السياسية الناتجة عن أعوام من الحكم الذاتي، أي بتعزيز العمل الحزبي بالحكم الفعلي، وكذلك من سذاجة الأطراف الأخرى وتوجهاتها الطائفية في الجانب الشيعي، والرفض السني للمشاركة في العملية السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: قواعد السلطة وورطة تشرين.. شدّ الجمهور بـ"الجوكر"

ورغم أن التاريخ المضطرب والدموي لهذا المكون القومي مع الحكومات العراقية وما تعرض له من مجازر وملاحقات يُبرر إلى حدٍ ما خوف النخب الكردية من تكرار ما حدث سابقًا، حين حاولت قطع الطريق على بناء مركز قوي يسيطر عليها ويُعيدها إلى حالة ما قبل الحكم الذاتي، إلا أن سعيها هذا مع ما سجله من نجاحات، لم يكن استراتيجية "آمنة" في بلاد الفوضى، ولعل عامل الخوف من تكرار الماضي ليس الدافع الوحيد لسياسة حاكمي الإقليم، بل تداخل أجندات خارجية بدت واضحة منذ سقوط النظام السابق، وقبل ذلك.

أدى حل الجيش العراقي وتفكيك الأجهزة الأمنية، ثم بناء قوات عسكرية ناشئة على أسس طائفية محاصصاتية إلى هشاشة الوضع الأمني بصورة كبيرة. وفي مقابل ذلك، كان الفشلُ في بناء الدولة ـ والذي ساهم الكرد فيه ـ يُزيد من الاحتقان الشعبي والسياسي ويُنبئ بانفجار، وهذا ما حصل على دُفعات، لكنه لم يَمس إقليم كردستان بقوة ابتداءً.

ساهم الضعف العسكري الناتج من ضعف الدولة ومركزها، والأداء السياسي القائم على تقاسم المغانم بين زعماء الطوائف، جنبًا إلى جنب، بالوصول إلى لحظة 2014 والانهيار الكارثي وسقوط محافظات عراقية بيد تنظيم إرهابي على مقربة من "حدود" الإقليم، هدد أربيل ذاتها.

وإنْ تحدثنا بمنطق المصلحة الضيقة الفئوية للإقليم فأن انعزاله الذي جنّبه ـ ربما ـ الحروب الأهلية، لم يجنّبه الخطر العسكري للتنظيم، وبالتأكيد، لم يجنبه التردي الاقتصادي لناحية عجز الموازنة العراقية التي كانت مباحة للابتزاز السياسي بين الأحزاب الكردية والشيعية، وما ترتب على اجتياح داعش من انسحاب للمؤسسات التجارية والشركات المستثمرة من محافظات الإقليم.

حاولت السلطات في أربيل استغلال الحدث بمسك أراضي المادة 140 (تسمى المُتنازع عليها في الدستور!) وغيرها، بعد تحريرها من التنظيم، ثم تمادت بعد ذلك إلى مرحلة إعلان الاستفتاء على الانفصال من العراق؛ لكن، ومرةً أخرى لعوامل داخلية وبدفع من الخارج، خسر الإقليم، متخلي الأمريكيين عنه، ليس بعضًا مما حصل عليه بعد 2014 فحسب، بل بعد 2003، حين استعادت القوات العراقية الرسمية السيطرة على مناطق نينوى وكركوك وأخرجت البيشمركة منها (يصارعون الآن لأجل العودة).

بعد حيدر العبادي الذي استعادت حكومته المناطق من سيطرة الإقليم، جاء صديقهم عادل عبد المهدي على رأس الحكومة الذي صَرف الأموال بطريقة الأسواقات الشعبية "إمضي بما انت ماضٍ فيه بحسب الاتفاق مع الأخوة".. ورغم ما حصلوا عليه بوجود عبد المهدي، وتأييدهم العلني له أثناء الانتفاضة الشعبية في تشرين إلا أن الرئيس الصديق لم يصمد أمام الاعتصامات الناتجة من ضعف الدولة الذي ساهمت به الأحزاب الكردية. والحصيلة؛ لم يقفوا إلى جانب المتظاهرين في مطالب الإصلاح، ولم يحظوا ببقاء صديقهم وامتيازاته لهم.

ربما ظنّت بعض الأحزاب الكردية المتشددة قوميًا أن ضعف الدولة العراقية وبالتالي استقواء الجماعات المسلحة لن يصيبها بأذى، لكن صوت الصواريخ التي سقطت على أربيل كانت أعلى وأوضح من تلك الظنون، لتثبت فساد المبدأ القائل: ضعف المركز قوةٌ للإقليم.

مؤخرًا، وفي ذات السياق، أثار تصريحٌ للقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني والوزير الأسبق هوشيار زيباري عن الحشد الشعبي امتعاض أطرافًا في الأخير، ولم تفلح الصفقات المحاصصاتية بين البارتي والأحزاب المكوّنة لتحالف البناء بلجم الغضب، بل تُرجم إلى اقتحام مقر الحزب الكردستاني في بغداد وإحراقه وسط تفرّج القوات الأمنية.

إن الأحزاب التي تُفكر دون ضغط الآيديولوجية ستقف عند مشهد عجز القوات عن حماية مقر حزب رئيسي في الحكومة والبرلمان، ودراسة أسباب ذلك الضعف. لكنها؛ إذا لم تستفد من الحقائق الواضحة، ستقف دون شك عند أسباب الغضب وتماديه إلى الاقتحام والحرق. وعند الوقفة الأولى ستُراجع نظرتها للدولة العراقية ومصلحتها بتقويتها، وعند الثانية ستنتهي بتفاهم مع الطرف الثاني وحذر مستقبلي في التصريحات.

إنْ كانت تجربةُ السبعينيات، وتجربة 2017، غير كافيتين لتغيير المنهج السياسي الكردي اتجاه الدولة العراقية وإدراك أن الدولة هي الخيار الأسلم للجميع، فليت التجارب الجديدة تفعل ذلك

قرأتُ قبل أعوام تصريحًا لافتًا من سياسي كردي مخضرم نصح فيه أحزاب الإقليم بالتفاهم مع بغداد وعدم الاعتماد على الخارج. التفاهمُ بمعناه الاستراتيجي وليس الجدال حول الرواتب وعائدات النفط والمنافذ الحدودية. وإنْ كانت تجربةُ السبعينيات، وتجربة 2017، غير كافيتين لتغيير المنهج السياسي الكردي اتجاه الدولة العراقية وإدراك أن الدولة هي الخيار الأسلم للجميع، فليت التجارب الجديدة تفعل ذلك، شرط ألّا تُسمع مقولات الخارج بما فيهم الصهاينة ورؤيتهم للعراق والمنطقة، سواء الإسرائيليين منهم أو العرب!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

آفة "الفُگر" تنخر الأخلاق والعقل: التطبيع انموذجًا

الدولة الفاشلة: حين تنتهك الحكومة "سيادة القبيلة"