26-سبتمبر-2021

مرشحون لا يعولون كثيرًا على البرامج السياسية (Getty)

لم تعد العبارة التالية رجمًا بالغيب: إذا أردتَ أن تغدو ميسور الحال وتقضي ما تبقّى من عمرك، أنت وعائلتك، حياة هانئة، فما عليك سوى أن تكون عضوًا في البرلمان العراقي الأسطوري وتؤمّن على مرتبك التقاعدي الذي يفوق التوقعات. وحين تفكّر بالترشيح فمن المؤكد أنك ستتّخذ، لا شعوريًا، من هذه العبارة مُنطَلَقَاً لك: "الشعب في خدمة السلطة". هذه ليست نُكات مُدرَجَة في سجل "التحشيش العراقي" اليومي، بل هي حقائق مرّة يتجرعها الناس من دون أن يكون لهم دور فعلي في قلب المعادلة، وإن حاولوا فسيموتون وتسحقهم ماكينة الاغتيالات وتُطوى صفحتهم بعد فترة وجيزة. وما عدا ذلك سيتحضّر العراقيون لـ "مهرجان التحشيش الانتخابي" الذي يتبارى فيه الناس إلى عرض نكاتهم وتهكّماتهم عن القافلة الجديدة من الميسورين - المرشحين الجدد. 

سيكتفي النائب الجديد، على الأرجح، بمهمتين رئيسيتين: إرضاء "الكبار" والحصول على امتيازات لبطانته الخاصة

في انتخابات 2014 على ما أذكر فاجئني أحد المُرَشَحين للانتخابات، حيث لم تكن لديه المؤهلات الكاملة لقيادة عربة حصان، فسألته متفاجئًا عن سر ترشيحه للبرلمان وحماسه الزائد تجاه العمل السياسي وكلانا يعلم أنه ليس مؤهلًا لهذه اللعبة على الإطلاق. فأجابني في حينها بهذا الجواب الذي يكثف المشهد الانتخابي بعمومه: " يا أخي تعبت من الفقر، لا أملك في هذا البلد إلا غرفة واحدة، أتمنى الحصول على بيت!". لا أملك الإجابة الكاملة على السؤال التالي: لو كان البرلماني العراقي يتقاضى ما يعادل 1000 دولار هل سنشهد هذا الاستبسال من قبل المرشحين لبرلماننا الأسطوري وهم يبذلون الأموال الطائلة لحملاتهم الانتخابية؟ ليس بالضرورة الإجابة المباشرة والقطعية عن هذا السؤال، بل سنحذو حذو الفلاسفة ونترك السؤال يولّد إمكانيات جديدة للفكر والحياة عبر تعدد الأجوبة! فيغدو، على سذاجته إشكالية مهمة، ويمكن أن نعتبر معظم ما كُتب عن هذا المهرجان الانتخابي هو إسهام سياسي للإجابة عن هذا السؤال. ومن ثم تغدو الأسئلة الكبرى التي عادة ما تُطرح في المجتمعات الحديثة ترفًا غير مُبَرَر في واقعنا السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: من طائفية إلى مناطقية: شعبوية الانتخابات العراقية

من الطريف والمحزن للغاية أنك تعثر على كل شيء في هذا الكرنفال الانتخابي؛ صورة مُختارة بعناية للمرشحين، ونساء قد بذلن جهدًا لافتًا للظهور بأبهى صورة، وشعارات هي أقرب للتحشيش الفيسبوكي منها إلى المضامين التي توصلنا إلى برنامج المرشح (وهذه الفقرة بالذات تسلب منّا راحة البال فخير لنا ألا نستفيض فيها، وأحيل القارئ إلى مقالة الزميل زيا وليد المعنونة: من طائفية إلى مناطقية: شعبوية الانتخابات العراقية). حتى أنني لمحت الكثير من شعارات المرشحين "المستقلين" يدعون فيها إلى التغيير، ونحن ننتظر بفارغ الصبر وصول المستقلين إلى البرلمان لحدوث هذه "الثورة المجيدة" التي يريد أن يصنعها بعض المرشحين. كل شيء يمكنك أن تعثر عليه إلا المصداقية. إن البرلمان العراقي بعمومه لا يعدو أن يكون بورصة كبيرة يتصارخ أعضائها هنا وهناك للفوز بأكبر رقم ممكن.

واعتمادًا على الذاكرة السياسية الماضية، وتراكم التجارب الشخصية، أدرك السياسيون مزاج العراقيين منذ وقت طويل، لذلك لا يعولون كثيرًا على البرامج السياسية؛ فعلاقة المُرَشَحين بناخبيهم تنتهي بعد انعقاد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد ويذهب كل شيء إدراج الرياح وينخرط "المستقلون" مع أصدقائهم البرلمانيين الجُدد وتنتهي أحلام التغيير العظيم على يد المرشح السياسي المستقل. بل ستختفي الكثير من الأسماء الفائزة من الأضواء؛ لا نسمع لهم صوتًا ولا همسًا، لا مؤتمرات صحفية، ولا مبادرات مهمة، والأهم من ذلك كلّه، لا تواصل مع ناخبيهم باستثناء دائرة المقربين جدًا الذين سينالهم خير النائب ومرتبه الأسطوري. وسيكون معظم من ساهموا في فوز ممثليهم مقطوعي الصلة بهم. إن مهمة الناخب، خصوصًا إذا كان ذو نزوع عقائدي، تنتهي عند وصول النائب إلى البرلمان ولا يحظى بشيء هذا الناخب المسكين سوى سرور غريب وهو يساهم في صعود مرشحه لعرش البرلمان، هذا السرور يصعب تحديد أسبابه ومنافعه، وحده الناخب من يجيب عنه. ربما سنشهد استعراضات بهلوانية في وسائل الإعلام من قبل المحظوظين-الفائزين الجدد تتكلم على طريقة "ما ينبغي أن يكون"، وضرورة العيش الكريم، وظاهرة تفشي الفساد، وهلم جرا.

 أما من الناحية الوظيفية، سيكتفي النائب الجديد، على الأرجح، بمهمتين رئيسيتين: إرضاء "الكبار"، والحصول على امتيازات لبطانته الخاصة، وما عدا ذلك سيكابد الروتين الممل مما يجعله من ضمن المُعَطّلين والمسافرين والسائحين في أرض الله الواسعة. نقول "إرضاء الكبار" بدافع حسن الظن فيما لو كان مرشحنا مستقلًا مثلما يريدنا أن نتماشى مع مدعياته، وإلّا سيكون جزءًا لا يتجزأ من هؤلاء. لكن سجل "التحشيش العراقي" وجه ضربات استباقية لشعارات المرشح المستقل، ولسان حاله يقول "لكم الشعارات ولنا التحشيش". ليس لأن الرأي العام العراقي يميل إلى تسخيف القضايا المصيرية بهذه الصيغ الشعبية المشهورة بل لأن الأمر لا يحتمل غير التحشيش!

إن اللحظات الحرجة وشدة تأثيرها لا يمكن علاجها بالجدية، في بعض الأحيان، وقصة المرشحين وشعاراتهم وما سيؤول إليه الوضع بعد فوزهم، كل هذه الأمور لا نستطيع أخذها بجدية فيأتي التهكم والنكات جوابًا لهذه المهزلة. قبل عدّة أيام كتبت مسودة هذه المقالة وكانت فكرتها تشير إلى التسلسل التاريخي للانتخابات وما يتضمنه من تفاصيل. لكني وجدت الأمر بالغ الجدية، فأنت في النهاية تتكلم عن الانتخابات طبقًا لـ"الديمقراطية العراقية" وهذه وحدها تكفي للكف عن الخوض في وجع القلب. أصدق تعريف لهوية المرشح هو ما قرأته لبعضهم إذ يعرف نفسه بالقلم العريض: "الشيخ"، وهذه الدلالة تكفي للفوز بهذا الكرنفال الانتخابي السعيد. هذا الشيخ هو من يمثل واقعنا شكلًا ومضمونًا وما عداه أمنيات مؤجَلة.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مقاطعة الانتخابات.. دفاعُ عن جوهر الديمقراطية

دون حق في اختيار الحكومة.. ماذا يعني وجود مئات المرشحين "المستقلين"؟