04-أغسطس-2019

كل صيدلية لها التزاماتها الخاصة مع الأطباء (تعبيرية/Getty )

مع الارتفاع المطّرد لأعداد المرضى والتراجع الكبير في مستوى الخدمات الطبية الحكومية، نشط بشكل لافت القطاع الخاص في المجال الصحي، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة بعد 2003 في تطوير البنية التحتية وتصميم مستشفيات حديثة وتخصصية تستوعب تزايد النسب السكّانية في المدن، ومع نشاط القطاع الخاص انتعشت ما تسمّى الـ"سمسرة" بين الأطباء والصيادلة، وأصحاب المراكز العلمية لبيع الأدوية، بالإضافة إلى أصحاب المختبرات ليدفع ثمنها المواطن فقط. 

فحوصات تخمينية!

بعد أعوام الدراسة والعمل، لم يتوقع ناظم حسن أن يفشل في مشروع عمره، حيث افتتح مختبره الخاص بعد إكماله كافة ضوابط وشروط وزارة الصحة، لكنه لم يدم سوى أشهر، بالرغم من اختياره موقع مميز وسط شارع الأطباء في مدينته، حيث يستوجب العمل والربح عدة اتفاقات قائمة على النصب والاحتيال، بحسب وصفه.

انتعشت الـ"سمسرة" بين الأطباء والصيادلة وأصحاب المراكز العلمية لبيع الأدوية، بالإضافة إلى أصحاب المختبرات ليدفع ثمنها المواطن وحده 

 قال حسن في حديث لـ"ألترا عراق"، "خلال عملي في وظيفتي في مستشفى عام وسط المدينة كانت تربطني علاقة ممتازة بأطباء الاختصاص، وطلبت مشورتهم في نوعيات ومناشئ الأجهزة التي احتاجها في المختبر، بالإضافة إلى الاتفاق على تحويل مرضاهم إلى مختبري"، مبينًا أنه "حتى منتصف الشهر الثاني كان العمل مشجعًا ومربحًا إلى حد ما، بسبب تحويل المرضى من قبل الأطباء، لكن تراجع بشكل لافت حتى وصلت إلى الصفر".

اقرأ/ي أيضًا: "السمسرة الطبية".. تواطؤ وتسويق بـ"الحنّاء" على طريقة "المراقد المقدسة"!

تابع حسن "بعد السؤال واستشارة بعض الأصدقاء عن سبب توقف إرسال التحليلات، سألوني ماذا أعطيت لهذا الدكتور وتلك الدكتورة، فاستغربت الأمر، أجبتهم كل ما أعرفه عن الاتفاقات التي تكون بين الطبيب والصيدلي، مستدركًا "لكن المفاجأة كانت أنهم غالبًا لا يطلبون شيئًا، كل ما في الأمر أنت عليك شراء هاتف نقّال حديث، أو أثاث منزلي، أو أي شيء، المهم أن لا يقل عن الألف دولار". 

بشأن آلية العمل والاتفاقات، أوضح حسن، أن "الطبيب بعد الاتفاق يقوم بإرسال جميع المرضى إليك ويطلب مجموعة تحاليل، فيما لا يحتاج 95% من المرضى سوى بعض التحاليل للمساعدة في التشخيص، مستدركًا "لكن الاتفاق يدفع الأطباء إلى طلب أكثر من تحليل، بالإضافة إلى كتابة العلاج، بعدها ضمن تفاهمات أخرى مع صاحب الصيدلية"، لافتًا إلى أن "صاحب المختبر لا يعير أهمية للهدية أو النسبة، لأنها ستضاف على كاهل المواطن، خاصة أن معظم التحاليل لا تتجاوز تكلفة موادها الأولية سوى ألف دينار، فيما تكلف الهرمونية أكثر، وبالنتيجة كل تحليل هو خمسة أو ستة أضعاف تكلفته، لكن الأجهزة غالية".

لفت حسن إلى "ارتفاع التسويق للفحص الشامل مقابل مبالغ متواضعة تدر ربحًا بسيطًا لمن يقوم بإجراء جميع الفحوصات المعلن عنها بشكل صحيح، لكون المواد المختبرية لكثير من أنواع التحليلات المشمولة بالفحص أسعارها مناسبة، فيما تغيب تحليلات الأنزيمات والهرمونات"، مشيرًا إلى أن "أصحاب المختبرات لا يجازفون  باسمهم وسمعتهم ويعطون نتائج غير دقيقة، فيما يقوم أصحاب بعض المختبرات بتخمين نتائج لفحوصات معينة على ضوء فحوصات أخرى، مثلا ثلاثة تحاليل لوظيفة معينة إذا كان واحدًا من الـثلاثة سليمًا، تخمن النتائج البقية سليمة، وهذا يعتمد على ضمير العاملين".

الوصفة المشفرة

حزمة الاتفاقات التي تبدأ من المندوب مرورًا بالصيدلي وطبيب الاختصاص لضبط إيقاعها بسهولة في حالة منح المريض حرية اختيار الصيدلية، خاصة وأن كل صيدلية لها التزاماتها الخاصة مع الأطباء، فاستخدم أطباء أسلوب التشفير بكتابة الوصفة، بآلية لا يفهمها سوى أفراد الصيدلية المعنية بعد أن يقوم سكرتير الطبيب بإرشاد المريض إليها.

كل صيدلية لها التزاماتها الخاصة مع الأطباء، فاستخدم أطباء أسلوب التشفير بكتابة الوصفة، بآلية لا يفهمها سوى أفراد الصيدلية المعنية

إزاء ذلك، يقول سجاد مزعل، إنه "من غير المعقول أن أدخل أربع صيدليات ولم يستطع الصيدلي قراءة الوصفة"، فيما نصحه أحد الصيادلة بالتوجه إلى الصيدلية التي تملكها زوجة الطبيب الذي راجعه، قائلًا "هناك ستجد العلاج المطلوب".
وبيّن مزعل في حديثه لـ"ألترا عراق"، أن "العلاج هو روتيني يتكون من أربع مواد؛ انتبايتك ومقوي بالإضافة إلى كبسول للمعدة".

اقرأ/ي أيضًا: شبح السكّري القاتل في العراق.. "سرطان نائم" في أسرّة الأطفال والكبار!

وتدوال مدونون نماذج للوصفات المشفرة التي يعجز عن قراءتها إلا من حدثه كاتبها بطلاسمها، أو أن "الجن" عجز عن فهمها بحسب امرأة كبيرة في السن، بينما تظهر وصفة علاجية اطلع عليها "ألترا عراق"، الطرق العجيبة التي كتبت بها، فيما تضمنت بحسب مختصين، "Mobic ampules 3، Omperazol capsules، Myogesic tablet"، وهي عقار موبك وهو مقوٍّ، بالإضافة إلى أقراص مايوجسك للمفاصل وأقراص للمعدة".

علاج نسائي لطفلة!

افتتحت مئات المكاتب الدوائية في بغداد، لعدة شركات أجنبية وعربية لديها عشرات المندوبين وظيفتهم الذهاب للأطباء، وعرض أدوية شركاتهم عليهم مقابل "نسبة" معينة، مثلًا في حالة صرف الطبيب لمرضاه 1000 قطعة من دواء معين، سيحصل على سفرة إلى تركيا أو ماليزيا أو مبلغ مالي، بالإضافة إلى دفع إيجار العيادة لمدة سنة مثلًا، وغيرها من المغريات الأخرى.

في السياق تروي "م. خ" تفاصيل عملها كمندوبة، بالقول، إنني "خريجة كلية طب أسنان وبسب تأخير التعيين عملت مندوبة علمية لإحدى شركات الأدوية لمدة 3 أشهر سبب نظام الشركات، حيث يأخذ الطبيب نسبة عن كل كمية من نوع معين يتم صرفها على مرضاه، وعند وجود منافسة بين شركتين يملكون نفس "الايتم" يرفعون السعر على المريض، ويعطون الزيادة للطبيب حتى يكتب".

تابعت "م.خ" في حديث لـ"ألترا عراق"، أنه "خلال زيارة إلى أحد الأطباء لتقديم شرح عن المنتج الذي نرغب في تسويقه، قاطعني وقال بوضوح "عوفي الشرح والعلميات، سولفي لي بالدفع شكد تنطون؟".

أشارت "م.خ" إلى أن "الأمر الذي دفعني لترك العمل هو بسبب  طبيبة نسائية أخذت إليها غسول نسائي، وكان الأكسباير الخاص به بعد ٦ أشهر، ولدينا كمية كبيرة لا بد من تصريفها خلال أقل وقت، فتم الاتفاق على حساب ٣$ على كل قطعة، وبعد أسبوعين نفذت الكمية وطلبت 500 قطعة جديدة"، لافتةً إلى أنها أثناء زيارتها للطبيبة "شاهدت عند الصيدلية القريبة من الطبيبة أم ومعها بنت لا تتجاوز 12 سنة، وبيدها وصفة من ذات الطبيبة وفيها غسول نسائي، مبينةً أنني "استغربت، خاصة وهو يصرف للنساء، فيما توقعت أن يكون للأم، مستدركة "لكن ضمن وصفة البنت، فانتظرتهم خارج الصيدلية، وسألتها فعرفت أن العلاج كله للبنت حتى الغسول، والصدمة أن البنت تعاني من حب بظهرها، وبسبب جهل الأم بالاختصاص المطلوب جاءت إلى طبيبة نسائية وتوليد، عدت للطبيبة، وأنا مستغربة وعصبية بكل برود قالت "والله شسويلكم أنتوا تريدوني أكتب هواية".

فراغ قانوني

قال مصدر في نقابة الأطباء إن "هذه الاتفاقات ممنوعة قانونيًا، لكن لا يمكننا أن نحقق بالموضوع دون وجود شكاوى ومدعي بالحق الشخصي"، لافتاً في حديث لـ"ألترا عراق"، أننا "نقوم بشكل دوري بجولات تفتيشية على عيادات الأطباء حيث نقوم بأخذ نسخ ونماذج من الوصفات الطبية التي يصرفها الطبيب والتي تحمل توقيعه المعتمد رسميًا".

مصدر من نقابة الأطباء: هذه الاتفاقات ممنوعة قانونيًا، لكن لا يمكننا أن نحقق بالموضوع دون وجود شكاوى ومدعي بالحق الشخصي

أضاف المصدر الذي رفض الكشف عن اسمه لأسباب تتعلّق بوظيفته، "هناك فراغ قانوني في هذا الجانب ولا يوجد نموذج محدد حتى يتم محاسبة الأطباء وفقه، حيث تختلف طريقة كتابتها من طبيب إلى آخر، نحتاج إلى تشريع قانوني بالإضافة إلى تعاون مع نقابة الصيادلة لمنع صرف الوصفات المشفرة، فضلًا عن دور المواطن في تقديمه شكوى ضد الطبيب والصيدلية".

اقرأ/ي أيضًا: الصحة.. تكتم على الموت البطيء وانتشار الأوبئة ودفع نحو الهند وإيران

في السياق قال مدير إعلام وزارة الصحة، الدكتور أحمد الرديني، إن "هذا الأمر من اختصاص نقابتي الأطباء والصيادلة، بالإضافة إلى مكتب المفتش العام في وزارة الصحة"، مؤكدًا على "ضرورة طباعة الوصفة الطبية".

أضاف الرديني في تصريح صحفي تابعه "ألترا عراق"، "للأسف البعض من الكوادر الطبية غلب الجانب الربحي المادي عندهم على الإنساني والأخلاقي، الأمر الذي أرهق المريض وضاعف من معاناته"، داعيًا إلى "مراقبة شركات توزيع الأدوية ومكاتبها".

أشار إلى أن "وزارة الصحة هي جهة رقابية فقط، ولا تستطيع أن تتدخل بقوانين نقابة الأطباء والصيادلة، واللتين بحاجة إلى مراجعة قوانين عملهما، وسن قوانين جديدة تتلاءم مع الوضع الحالي للبلد، وما يمر به من ظروف استثنائية، مطالبًا بـ"ضرورة وضع ضوابط جديدة للحد من هذه الظاهرة".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

غاب الدواء وحضرت الأعشاب.. لماذا يلجأ العراقيون إلى "الطب الشعبي"؟

الصحة العالمية: مستشفيات العراق لا توفر 50% من الأدوية الرئيسية