10-سبتمبر-2019

الحقيقة المؤلمة هي أننا نضع صورة الدكتاتور للحماية من الدكتاتور (AFP/Getty)

في كتاب الوصايا المغدورة، يطرح ميلان كونديرا وجهة نظره بشأن الرعب في تشيكوسلوفاكيا أثناء حكم الشيوعية، ويعتقد أن الناس هناك كانوا - برغم قسوة النظام - قادرين على العيش بنوع من الحرّية والمرح "هل نسوا تلك السنوات التي كانوا يشاهدون خلالها أفلام فورمان ويقرأون كتب هرابال، ويذهبون إلى المسارح الصغيرة غير الرسمية، ويرون مئات الطرائف ساخرين من النظام الحاكم؟ وإن هم اقتصروا فقط على ذكر الأربعين عامًا المرعبة، فلأنهم كانوا قد فعلوا بذكرياتهم ما فعله جورج أورويل في روايته السالفة الذكر - 1984 - أي أنهم أعدموا كل ما يتصل بحياتهم الخاصة، وحقروا من شأن كل ما ليس له علاقة بأهوال النظام الشيوعي. وهكذا أصبحت السنوات الأربعون سنوات ضائعة بالنسبة لهم".

هل حقًا كان الشعب العراقي فرحًا في نهاية الحرب مع إيران حيث المئات من الصور لمواطنين يملأون الشوارع رقصًا؟ 

في جملة كونديرا السابقة، سأضع خطًا تحت عبارة "حقّروا من شأن كل ما ليس له علاقة بأهوال النظام الشيوعي". وسأطرح سؤالًا يقول "ما هو الشيء الذي ليس له علاقة بأهوال النظام الشيوعي بعد سحق الدبابات الروسية لربيع براغ عام 1986؟".

اقرأ/ي أيضًا: استدعاء الدكتاتور صدام حسين.. الحاجة إلى البطل!

خلال أعوام الثمانينيات، كان الوضع السياسي العراقي برغم الحرب يبدو مُستقرًا، وبعد نهاية الحرب في العام 1988 وجهت السلطة العراقية خطابًا للشعب العراقي دعتهم فيه للاحتفال، خطاب يجعلني اُفكّر في هذا السؤال: هل حقًا كان الشعب العراقي فرحًا بهذا اليوم حيث المئات من الصور لمواطنين يملأون الشوارع رقصًا. لكن قبلها بالضبط، قبل هذه الاحتفالات، كان هناك خطاب من الدولة.

في الخطاب، تكرّرت كلمة "احتفلوا" ومثيلاتها في بيان البيانات أحد عشر مرّة، أولها في الجملة التالية "فإنّنا ندعوكم لتحتفلوا به كانتصار عظيم وبغض النظر عما ستكون عليه نتائج ما ينتظرنا من تطبيق للفقرات الأخرى من قرار مجلس الأمن رقم 598".

كانت كلمة "احتفلوا" كأي فعل أمر تصدره السلطة، لكنه - فضلًا عن ذلك - فعل أمر متعدّي، فعليًا على الشعب أن يحتفل من دون أن يفهم و"بغض النظر" عما سيؤول إليه قرار 598 الذي لم يكن أغلب العراقيين في الداخل يستطيعون معرفة تفاصيله لأن الإعلام كان شموليًا بيد السلطة. أيضًا لم يكن المواطن العراقي يمتلك مصادر معلومات خارجية - باستثناء الراديو - الذي كان يتم التشويش عليه غالبًا.

تتكرر بعدها كلمة احتفلوا لعدة مرّات "احتفلوا أيها العراقيون الأماجد"... "احتفلوا الآن بانتصاركم"... "احتفلوا بيوم الأيام".

ولم يكتف خطاب السلطة بأوامر "الاحتفال" لكنه يحدد للمواطنين حتى طريقة الاحتفال أيضًا، فالاحتفالات التي بدت أنها "عفوية"، لم تكن في حقيقة الأمر عفوية "ويعبر كلّ عن الفرحة ويحتفل بطريقته". أليس هذا أمرًا في تحديد طريقة الاحتفال؟!

نتيجة لهذه "الأوامر" بدت احتفالاتنا عفوية وعشوائية تمامًا، وخلال ساعات توجه الناس للشوارع محتفلين، خلال ساعات أيضًا، ظهرت الأغاني "المحتفلة" وتم بثّها بكل الطرق الممكنة.

في نهاية حرب إيران لم يكتف خطاب السلطة بأوامر "الاحتفال" لكنه يحدد للمواطنين حتى طريقة الاحتفال أيضًا، فالاحتفالات التي بدت أنها "عفوية"، لم تكن عفوية!

يستمر خطاب السلطة لدفعنا للاحتفال، فيشمل رجال القوات المسلحة "وأنتم أيها الرجال في قواتنا المسلحة احتفلوا مع شعبكم وأمتكم أيضًا وبطريقتكم الخاصة"، يشمل أيضًا الشيوخ والشباب والنساء والرجال وحتى الأطفال "احتفلوا أيها الشيوخ والشباب... أيتها النساء وأيها الرجال... أيها الأطفال يا زينة الحياة".

اقرأ/ي أيضًا: صورة الدكتاتور

ولم ينته أمر الاحتفال عند هذا الحد، فخطاب السلطة لا ينسى "الشهداء" فهم أيضًا مشمولون بالاحتفال وعلى طريقتهم الخاصة "أيها الأكرمون إنّكم يقينًا ستحتفلون على طريقتكم الخاصة". هكذا يبدو كلّ شيء في احتفالاتنا "العفوية" مُعد من خطاب السلطة.

لم يكن هذا التحكم في المشاعر خاصًا بنا كعراقيين، لكنه يشمل كلّ الانظمة الدكتاتورية بالضبط كما تخيلها أورويل. فما كانت هناك قدرة أن نحتفل بهذه الطريقة "العفوية" برغم فرحة الشعب الحقيقية بانتهاء الحرب، لو أن خطاب السلطة لم يُقرر الاحتفال.

هل كُنّا نُحب صدام حسين عندما نضع صورته في المنازل التي كُنّا نضحك ونسخر فيها بصوت خفيض منه، أم كان هذا تعبيرًا عن الخوف؟ الحقيقة المؤلمة هي أننا نضع صورة الدكتاتور للحماية من الدكتاتور.

في جانب آخر من عالم شمولي بعيد عنّا، يكتب المسرحي ورئيس جمهورية التشيك فاتسلاف هافل قائد الثورة المخملية - زميل كونديرا - في كتابه قوة المستضعفين، ليُفكك حالة الرعب التي كان يعاني منها المواطن التشيكي أيام الاحتلال الروسي لبراغ من خلال مثال يبدو غاية في البساطة، يتحدث هافل عن بائع خضار يضع لافتة قرب البصل والجزر - وهي حالة عامّة هناك - تقول اللافتة "يا كادحين العالم اتحدوا"، يُناقش هافل مغزى وضع هذه العبارة، ما هي الرسالة التي يريد أن يوصلها بائع الخضار للعالم؟

الاستنتاجات التي يصل إليها هافل هي أن بائع الخضار يريد أن يقول "أنا بائع الخضار المدعو كذا موجود هنا وأعرف ما عليّ أن أفعله، أتصرف كما ينبغي ويمكن الاعتماد عليّ".

لكن في الحقيقة المُضمرة، سيكون التفسير هو أن بائع الخضار يعيش في رعب عميق "لا يُمكن لأحد أن يتهمني بشيء، أنا مواطن مُطيع لذلك يحق لي العيش بهدوء".

هل كُنّا نُحب صدام حسين عندما نضع صورته في المنازل التي كُنّا نضحك ونسخر فيها بصوت خفيض منه، أم كان هذا تعبيرًا عن الخوف؟ 

إن الهدوء في مشهد الرعب الخاص ببائع الخضار التشيكي، ومشهدنا في عراق صدام حسين يشبه تمامًا الهدوء في مشهد رسمه كافكا في رواية التحوّل عندما ينظر جريجور سامسا من ثقب الباب نحو شقته ويراها هادئة "لكن ماذا لو كان على كل تلك السكينة والراحة والرضا، أن تؤوّل جميعها الآن إلى الرعب".

اقرأ/ي أيضًا: صدام حسين.. الدكتاتور الذي يأبى الموت

هكذا، من الممكن فعلًا أن يعكس الرعب ملامح راحة ورضا وسكينة، وسيقول الدكتاتور وربما أنصاره أيضًا، الجملة نفسها التي قالها جريجور سامسا - وهو بشكل حشرة ضخمة - حين شاهد شقّته التي لم تكن خالية، من خلال شرخ في الباب وهي تعمّ بالصمت - بسبب خوف عائلته من تحوّله: "ما أروع الحياة الهادئة التي تحياها أُسرتنا".

إن هذه الحياة الرائعة الهادئة التي كُنا نعيشها تحت ظلال الدكتاتورية، هي أشبه ما يكون بتعبير توماس هوبز "وكما إن طبيعة الطقس الممطر العاصف لا تتمثل بوابل من المطر ينزل مرة أو مرتين، بل في استمرار سوء الطقس لعدة أيام". فالرعب لا يعني القتل والحبس أو الاعتقال، بل في اعتقاد الإنسان، أنّه سيكون في أيّة لحظة معرضًا لعنف السلطة التي لا يحميه منها أحد. وهذا ما لم يفهمه كونديرا "الابن المُدلل للنظام الشيوعي حتى العام 1968" كما يصفه مواطنه الروائي التشيكي إيڤان كليما، صاحب رواية "حب وقمامة" الذي اضطر للعمل كناسًا في شوارع براغ بعد أن كان أستاذًا جامعيًا بسبب قمع السلطة الشيوعية له.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

في نفسية الطاغية

صدام حسين.. حيٌّ في فيسبوك