12-ديسمبر-2020

يبتلى عموم الناس بعبادة الواقع المزيف (فيسبوك)

إن المؤلفين والوعاظ والخطباء يكونون أكثر وضوحًا حين يتحدثون في موضوعات يعلمها مستمعوهم سلفًا ويعرفونها جيدًا، ولا تحتاج إلى إيضاح أو تفسير. هيغل- الموسوعة الفلسفية.

لا يتجاوز معظمنا حدود التصورات العامة لمختلف الأمور. إن الذهن، بحسب هيغل، يكوّن تمثلات ذهنية عن الموضوعات تسبق من الوجهة الزمنية، تكوينه "لأفكار شاملة" عنها بوقت طويل، وعن طريق التمثّلات الذهنية يستطيع الذهن المفكر أن يرتفع إلى مستوى المعرفة وأن يفهم بطريقة فكرية. ببساطة شديدة: أنا أتصور الأشياء أولًا في ذهني على شكل صور ذهنية، ثم أرتفع درجة من خلال هذه التصورات نحو التفكير. فلا يمكن أن نطلق كلمة "تفكير" على مجرد تمثلات ذهنية لم تسلط عليها قوة التفكير.

كل شيء يجري في سياق الضرورة لدى السلطة، لأنها تخاف من الإمكان؛ السلطة تجمّد الواقع وتحيله إلى صورة ثابتة

إن ظواهر الوعي، كما يرى هيغل، التي يحفّز على ظهورها الفكر، لا تظهر أمرها في صورة فكرة، بل في صورة وجدان، أو إدراك حسي، أو تمثّل ذهني (تصوير ذهني)، وهي كلها جوانب ينبغي أن نفرّق بينها وبين صورة الفكر بمعناه الدقيق. ولهذه التفرقة ميزة مهمة وفارق أصيل بين أن تكون مفكرًا وبين أن تكون مجتّرًا لسيل التمثلات الذهنية، فلا تأتي بجديد سوى ما هو معلوم في أذهان الناس، كما لو أنك تقول لهم: إن الطريقة المثلى لرفع العطش هي شرب الماء، ومن يريد أن يحقق الارتواء فلا يبقى عطشانًا. ولو دققنا في كثير من الأحداث ربما سنجد تشابهًا بينها وبين عبارة الماء!

اقرأ/ي أيضًا: عن بضاعتنا الكاسدة

ثمّة فارق واسع، والكلام لفيلسوفنا، بين أن تكون لك وجدانات (مشاعر) أو تصويرات، أو تمثّلات ذهنية عامة التي يشكّلها الفكر، أو يشع فيها، وبين أن تكون لديك أفكار عنها. فهذه الأخيرة يسميها هيغل بـ"الأفكار الانعكاسية" والتي يمكن من خلالها الاستدلال. بمعنى أن التفكير الانعكاسي أو ما تولّده الأفكار هو من يعزز عملية التفكير. إن عملية التحول هذه، من التمثل إلى التفكير، عملية تركيبية ينتج من خلالها المفاهيم. فالتمثّل وحده لا ينتج تفكيرًا، مثلما أن عنصر الهيدروجين وحده لا ينتج ماءً إلا بالترابط مع الأوكسجين. والمفاهيم توسّط بين الذات والموضوع، أي بيننا وبين الموضوعات الخارجية، ولولاها لبقينا ندور في فلك الانطباعات العامّة، وأسارى تحت رحمة الحس المشترك، مثلما نرى وضعنا السياسي والاجتماعي في العراق، حيث معظم نظرتنا للواقع لا تخرج عن إطار التمثّلات العامة.

إن المفهوم المجرّد يركز على جانب مهم من الواقع. فمفهوم "الأحمر" على سبيل المثال، يقول أيان كريب في كتابه النظرية الاجتماعية، ما هو إلّا تجريد لكل الأشياء الحمراء التي نراها من حولنا.. إنه حالة الذهن وهو يكثّف الكثرة في وحدة مفهومية. وهو- بحسب الرؤية الكلاسيكية- تجريد عقلي يحاول أن يحدد جملة النعوت والصفات الثابتة، كما يقول عادل حدجامي، في كتابه فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف، التي تُحمَل على جملة من الموجودات بغرض إدراكها وتوحيدها في هوية. فالمفهوم له صفة العموم والانطباق الكامل على موضوعاته، ويوحدها في إطاره الجامع. ولولا المفهوم لما تمكنّا من التفكير؛ لأنه يشكّل الأساس الجوهري لتمثّل الموضوعات على شكل نماذج تصورية مكثفّة، إنه البنية التحتية لكل أنشطة التفكير، و"توحيد المتنوع في فكرة واحدة".

وبالطبع لسنا فلاسفة تقع على عاتقنا مهمة إبداع المفاهيم، ولا يمتلك معظمنا القدرة الواضحة على تفسير الأحداث والكشف عن بناها العميقة التي تتحكم بها. لكن على الأقل أن لا نبقى ندور في فلك المعلومات الجاهزة من قبيل؛ السلطة فاسدة والسياسيون ضد الشعب (يا سلام!) أو استنزاف قوانا الفكرية، وأن نحبس عقولنا في سجن الضرورة التي تشيّده السلطة، ثم نسير في ركابها من حيث لا نشعر. كل شيء يجري في سياق الضرورة لدى السلطة، لأنها تخاف من الإمكان؛ السلطة تجمّد الواقع وتحيله إلى صورة ثابتة. لا تختلف عن الصورة الفوتوغرافية، ذلك أن هذه الصورة تفتقر للحركية والتدفق، على عكس الصورة المتدفقة أحداثها على الشريط السينمائي. فالسلطة ترسّخ الصورة الأولى وتحارب الثانية، ذلك أن كل حركة إبداعية هي سلب لضرورة السلطة، لآنها تفجّر حياة الإمكان.

نحن نفشل في كل مرّة حينما نفقد تلك الحركية المبدعة، والانفتاح على عالم الإمكان، فننغمس في محفوظات معلومة أجوبتها سلفًا. يقول ماركس ما مضمونه: إن البشرية تطرح على نفسها الأسئلة التي تعلم أجوبتها سلفًا. حتى الفئات التي تضع وسام التنوير على صدورها تقع في هذه المكيدة. حتى من يطالبون بالتغيير ينشغلون في هوايتهم الأثيرة: الخصومات الشخصية، والتشرذم، وغياب الرؤية، فلا يبقى سوى المحفوظات والإنشاءات، فهي سلوة العزاء، خصوصًا أن أجوبتها بسيطة ومعلومة.

 يبتلى عموم الناس بعبادة الواقع المزيف، عبادة تنصب لنفسها آلهة شديدة الإعجاب بنفسها

ثمّة ضرب من ضروب العبادة التي يبتلى بها عموم الناس، أستطيع أن أسميها بـ" عبادة الواقع"؛ عبادة الواقع المزيف، عبادة تنصب لنفسها آلهة شديدة الإعجاب بنفسها، وهي تتغوّل في أذهاننا، إنها آلهة العادات، لها شياطينها الأشدّاء، هؤلاء الذين يسولون لنا أن انطباعاتنا النفسية هي الحقيقة وما عداها كفر وتجديف، فليس في الإمكان أفضل ممّا كان، وعلى هذا المنوال أصبحنا أسارى تحت قبضة هذا الضرب من العبادة الشريرة. ولكي نخرج من حالة التكرار والاجترار، أي الخروج من سجون الواقع المزيف، أن نسعى حثيثًا لمعالجة الأنماط الشائعة، الأنماط التي تعيد نفسها بأشكال تعبيرية مختلفة، وإلّا ستكون حالتنا مثل حالة الرجل الذي قدم لي نصيحة مفادها: إذا كان جسمك يعاني من الالتهابات فعليك بالمضادات الحيوية!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

طبيعة الصراع وإشكالياته الغائبة

التغيير وشروط الواقع