28-مايو-2016

احتراق حقول النفط في الكويت خلال حرب الخليج(Getty)

لا حياة للإنسانية في ظل انعدام الحق والحرية. قد يبقى للإنسان جسده النابض بحياة فيزيائية في أحسن الأحوال أو أسوأها، ولكن إنسانيته هي التي تقتل بالتأكيد، بصور مختلفة لا حصر لها. فألوان الاستبداد التي يمارسها البشر في العالم تفوق ألوان الطيف تعدادًا. أخطرها، وهو الأصل المولّد لكل أشكال الاستبداد الأخرى، هو الاستبداد الفكري الذي قد يظهر بمظهرين متباينين في الأسلوب: استبداد القهر وتكميم الأفواه وقتل حرية الكلمة والرأي والموقف بشكل تقليدي مباشر، واستبداد هيمنة فلسفة العولمة وقيم نظام العالم الجديد بصيغة أحادية وذلك بفرضها فرضًا قسريًا بأساليب غير مباشرة ولكنها أشد وأعمق فتكًا وأوسع في المدى وأطول في الديمومة.

العالم العربي كان صاحب الحظ الأوفر في معايشة خبرات البشرية في الاستبداد المجتمعي

العالم العربي كان صاحب الحظ الأوفر في معايشة خبرات البشرية في الاستبداد المجتمعي. فتعاونت على ذلك أياد محلية وعالمية وتناوبته، بدءًا من سيطرة النظام الأبوي على العقل العربي، الذي تعمل بعض النظم الحاكمة بكل طاقتها لتكريسه لضمان بقائها. فلا يمكن لأي منطق أن يجد لاستمراره مبررًا غير ذلك. فما هو النظام الأبوي الذي يعيش العالم العربي في جلبابه؟

اقرأ/ي أيضًا: الإسلاميون في الجزائر...المجد الضائع

فما هي عقيدة الصدمة؟

تكمن ديناميكية عقيدة الصدمة في علاج الصدمات بصدمات أخرى مماثلة لها في التأثير، مختلفة عنها في الشكل والمضمون، خاصةً في مراحل التيه التي تكون فيها الشعوب إثر الصدمات الأولى؛ فعندما تتعرض البلدان إلى كارثة صادمة إثر الحروب والانقلابات العسكرية والهجمات الإرهابية والكوارث الطبيعية، يتم إخضاعها لصدمة ثانية، من خلال الشركات والسياسيين الذين يستغلون الخوف والضياع الناتجين عن الصدمة الأولى من أجل فرض معالجة بالصدمة الاقتصادية؛ وكذلك إخضاع الأشخاص الذين يتجرؤون على مقاومة هذه السياسات الصدمية، لصدمة ثالثة، وذلك على أيدي عناصر الشرطة والجنود والمحققين.

وفي حديث دار بين دكتور سيريل كنيدي ودكتور دايفيد آنشل حول فوائد مبدأ العلاج بالصدمة عام 1948، اتفقا على أن العلاج بالصدمة هو المرادف الواقعي لمحو الذهن البشري وإعادة بنائه، فكل من تصيبه الصدمة يصبح عقله أشبه بصفحة بيضاء يمكن أن نكتب عليها. فمثلًا المفكر الروسي ألكسندر هيرزن في عام 1862، قد شكك في رؤية التغريبيين الليبراليين الذين يعتقدون أن روسيا لا يمكنها التقدم سوى بمحاكاة الإيديولوجيات والمؤسسات الغربية. لقد اقتنع بسبب تجربته في المنفى أن الهيمنة الأوروبية المدعومة بالكثير من الخداع الفكري وخداع النفس، لم تصل إلى التقدم. ثم قال: إن جهلنا الكلاسيكي بالغرب الأوروبي سوف ينتج عنه قدر هائل من الصراعات الطائفية والدموية. فقد استطاع الغرب محو الذاكرة العربية وأصبح السعي العربي وراء تطبيق النموذج الغربي هو الطريق الوحيد؛ فما الذي جنيناه من وراء النموذج الغربي؟!

حمامات من الدماء

لقد صدقت نبوءة هيرزن: فقد أسفر القرن التالي بعد نبوءة هيرزون عن أكبر حمام دماء في التاريخ: حربين عالميتين، وتطهير عرقي شرس، حصدوا عشرات الملايين من الضحايا. ورغم ذلك، فقد تبنت النخب الحاكمة في عشرات الدول الجديدة التي ظهرت على أنقاض الإمبراطوريات الأوروبية في القرن العشرين النموذج الأوروبي، وشرعت في السعي للثروة والسلطة على النمط الغربي. اليوم، تجتاح الصراعات الدموية العالم الذي كان من المتوقع أن تحكمه الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية معًا.

تسببت النزعات القومية في أوروبا بالحروب الأكثر ضراوة والجرائم الأكثر وحشية

فقد كتب روبرت كاغان في صحيفة وول ستريت عن إيمان المحافظين الجدد: "أمريكا مضطرة لاستخدام القوة الخشنة ضد أعداء الحداثة الليبرالية الذين لا يفهمون أي لغة أخرى، مثل اليابان وألمانيا في أوائل القرن العشرين، وروسيا اليوم". ولكن كاغان لم يذكر أي مظهر من مظاهر القوة ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تستخدمها ضد روسيا، هل هي القنابل الحارقة، كتلك التي قصفت بها ألمانيا، أم النووية، كتلك التي قصفت بها اليابان، أم النابالم الذي استخدم في أفغانستان؟ أم أن حملة الصدمة والرهبة في العراق هي المثال الأفضل؟ واليوم نرى المنطقة العربية بأسرها تروى بدماء أهلها ليس من عدو خارجي بل تسيل الدماء بين أبناء الشعب الواحد لتكريس واقع الدكتاتورية المكتوب على الأمة العربية.

اقرأ/ي أيضًا: يعلون وليبرمان.. العملة بوجهيها

النزعات القومية والطائفية

بحلول الأربعينيات، تسببت النزعات القومية في أوروبا بالحروب الأكثر ضراوة والجرائم الأكثر وحشية ضد الأقليات الدينية والعرقية في تاريخ البشرية. بعد الحرب العالمية الثانية، اضطرت الدول الأوروبية إلى تصور علاقات سياسية واقتصادية أقل عدائية، برعاية أمريكية وضغوط الحرب الباردة، مما أدى في النهاية إلى تكوين الاتحاد الأوروبي كوسيلة لإطفاء نار النزعات القومية.

وفي المقابل كانت الدول القومية الجديدة في آسيا وأفريقيا كانت قد بدأت بالفعل في رحلتها الخطرة نحو الحداثة، ضاربة عرض الحائط بالتنوع العرقي والديني وأساليب الحياة القديمة. لقد يئس الآسيويون والأفارقة المتعلمون في المؤسسات ذات النمط الغربي من النخب التقليدية بقدر ما استاؤوا من الهيمنة الأوروبية على مجتمعاتهم، فسعوا إلى القوة الحقيقية والسيادة في عالم الدول القومية القوية والتي بدت وحدها القادرة على ضمان فرصة عادلة لهم ولشعوبهم في القوة والمساواة والكرامة في عالم الرجل الأبيض.

الصراعات والتناقضات التي سببها السعي للحداثة قد أنهكت المجتمعات الغربية لجزء كبير من القرن الماضي

ولكن الدول القومية الأسيوية والأفريقية لم يستمر تواجدها واستقرارها كثيرًا. فكانت النتيجة لخروجها عن النموذج الغربي هي انتشار حركات التمرد التي لا تنتهي وانصراف الدولة وراء مكافحة حركات التمرد والحروب والمجازر، وصعود هذه المفارقات التاريخية والمستجدات الغريبة والمتمردين الماويين في الهند والرهبان في التبت، وإقبال الشباب العاطلين عن العمل على الانضمام إلى المنظمات المتطرفة، والبؤس المتزايد الذي يدفع الآلاف من الآسيويين والأفارقة إلى رحلة محفوفة بالمخاطر إلى ما يعتبرونه مركز الحداثة والنجاح، والآن في سوريا التي باتت مرتعًا للنعرات الطائفية بين السنة والشيعة والنزعات القومية بين الأكراد والعرب، وكذلك العراق واليمن.

خيبة الأمل

لقد شرح الكاتب الفرنسي ريمون آرون أسباب تعثر عملية التحديث في بقية دول العالم، كما أوضح في كتبه، مثل "التقدم وخيبة الأمل" (1968) و"أفيون المثقفين" (1955). حيث يرى آرون أن الغرب هو صانع العالم الحديث بابتكاراته السياسية والاقتصادية وأهدافه المادية، لكنه لم يتوانَ عن دراسة تأثير هذا على العالم الحديث. فهو يرى أن الصراعات والتناقضات التي سببها السعي للحداثة قد أنهكت المجتمعات الغربية لجزء كبير من القرن الماضي. فقد بدت المجتمعات الصناعية وحدها قادرة على تحسين الأوضاع المادية، وتحقيق قدر من المساواة الاجتماعية والاقتصادية، لكن وعود المساواة التي استخدمت لتجنب الاضطرابات الاجتماعية، كان من الصعب الوفاء بها.

وبالتالي عجزت الدول العربية عن إنشاء الدول القومية القوية وتلبية مطالب الشعوب بالكرامة والمساواة في الوقت نفسه، مما جعل استنساخ التجربة الغربية فيها أمرًا غير مسبوق ومحفوفًا بالمخاطر. فسعي الدول العربية وراء بناء دولة حديثة دون السعي وراء التوافق المجتمعي والسياسي أدى في النهاية إلى صراعات كانت نهايتها الفوضى العارمة.

اقرأ/ي أيضًا:

صحيفة عكاظ.. تجهيل وتشهير ضد الإعلام الديمقراطي

حين صار الموت خدمة إلزامية