19-أبريل-2021

في مشرقنا العربي يندر العثور على بنى تحتية تسهم في بناء الديمقراطية (فيسبوك)

من حسنات النظم الديمقراطية أنها جابهت أعتى أمراض الإنسان المزمنة، ولا أظنها ستشفى لا في المستقبل القريب ولا البعيد، وأعني هنا بالتحديد مرض السلطة العضال. فلا نتوهم أن هذا المرض المزمن تظهر أعراضه في المشرق العربي فحسب، بل هو أحد مخرجات الأنا البشرية؛ ذلك أنها تصور الأشياء من منظورها، وتنسب كل شيء، مهما كان صغيرًا أو كبيرًا، لنفسها، فهي توّاقة لابتلاع الأشياء ونسبتها إليها بلا تردد. ويمكن القول إن التجلي الأكبر للأنا للبشرية هو حب التعلّق بالسلطة، فلا يضاهي هذا التعلق شيء آخر. وقلّة من البشر عصمت نفسها من هذا المرض المستفحل، أما الآخرون، إما يمنعهم الخوف أو لم تواتيهم الفرصة الذهبية لترجمة هذه الأمنية العزيزة على قلب الكائن البشري.

الحقيقة التي لا يجهلها كل من يحترم عقله، أنه ما من مؤامرة خارجية يمكنها أن تستفحل مالم توجد التربة الخصبة والفضاء الملائم لها

النظام الديمقراطي آلية كابحة لمثل هذا المرض، فمثلما نعلم، لا فائدة مرجوّة من تناول العلاج مع وجود كوابح تمعن في مضاعفة الحالة واستفحالها. غير أن الديمقراطية ليست علاجًا شافيًا لمرض السلطة بقدر ماهي آلية تنظيمية عظيمة للحد من هذه الميول عبر الآليات المعروفة في النظم الديمقراطية، كالتداول السلمي للسلطة، والانتخابات الدورية، والتعددية الحزبية، والاحتكام للدستور، والالتزام بالقوانين. وعلاوة على هذا كله، لا بد من وجود بنى تحتية للديمقراطية، مثل المؤسسات التي يقع على عاتقها تنظيم الشؤون السياسية، والاقتصادية، والقانونية، والتربوية، ونحو ذلك. وهي بدورها تغدو مقدمة ضخمة لبناء مجتمع مواطني يعي ما له وما عليه. ومن دون هذه البنى التحتية الراسخة تغدو الديمقراطية مسخرة، أو صيغة معدلة أو تمويهية لأشكال تعبيرية جديدة للاستبداد، أو تطور "جرثومي" أو "فيروسي" جديد لمرض السلطة!

اقرأ/ي أيضًا: المجتمع والسياسة في العراق

في مشرقنا العربي يندر العثور على بنى تحتية تسهم في بناء الديمقراطية؛ فمنذ الحرب العالمية الأولى وحتى هذه اللحظة تشرذم العرب وتمزّقت وتقسّمت أراضيهم بين النفوذ الأجنبي، وتم إغراقهم في قضية يمكن تسميتها حسب وصف أحد الكتّاب بـ"نهاية السياسة"، وأعني بها القضية الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين سقطت البلدان العربية في فخ الهزيمة والتراجع عن دورها الريادي. وهذه الانتكاسة بدأت علائمها يوم سقطت بغداد بقسوة الغزو المغولي وأعلنت الإمبراطورية العباسية نهايتها الأليمة. ثم تلاه الاحتلال العثماني الذي دام أربعة قرون، وما لبث البريطانيون والفرنسيون أن يضعوا موطأ قدم في هذه الأرض بعد أن طردوا العثمانيين، وتقاسمهم النفوذ وتقطيع الأرض العربية إلى دويلات. فهذه نبذة سريعة وخاطفة عن تشرذم العرب وضياعهم بين الاحتلالات والحروب.

تخبرنا التجارب السياسية والاجتماعية، أن الانتكاسة تعقبها ردّة عنيفة، كما لو أن المجتمع يسارع إلى نقاطه المرجعية الأولى، أما النظام السياسي فيأخذ أشكالًا تنسجم عادة مع السياق الثقافي تمويهًا وتغطية على استبداده. فبعد انتكاسة حزيران 1968 وقعت النظم العربية بردّة عنيفة بسبب هذا الجرح النرجسي غير المتوقع حسب جورج طرابيشي. وتجلّت هذه الردة وكثّفت حضورها بشكل واضح وجليّ في الاستبداد؛ فبدلًا من فهم الدرس وأخذ العبرة تكوّرت الأنظمة العربية على نفسها وشعوبها بحجة المواجهة. وكان شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، هو الشعار الأبرز لهذه المرحلة حسب تعبير طيب تيزيني. وتم التغطية على الديمقراطية والمواطنة بهذا التبرير الشعاراتي.

ومن الطريف أننا نعثر على شواهد كثيرة لهذه التبريرات، التي أضاعت البلاد والعباد بهذه الشعارات، وأضحى تصفية الخصوم، وتنحية المعارضين، وكسر شوكة الكثير من الفئات الاجتماعية، عبر التلويح لهم بالعمالة ومساعدة الأجنبي، كما لو أن هذه الفئات هي من استدعت المحتل! المهم في الأمر، لقد وجدت هذه الأنظمة السلطوية حجتها العزيزة على قلبها وهي كما قلنا "لا صوت يعلو على صوت المعركة". فعلى سبيل المثال: لماذا يقاتل بشار الأسد على السلطة؟ لأنه لا صوت يعلو على صوت المعركة، ولأن بشار الأسد وحاشيته يقاتلون من أجل الوطن، فكل الأصوات التي تنادي برحيله هي أصوات نشاز. أكثر من ذلك، ينبغي تصفية هذه الأصوات المعارضة كلما كانت الفرصة مواتية.

المشكلة في هذه الأدبيات الرثة، أنها تحاول إقناعنا بأن المؤامرة الخارجية هي دائمًا وأبدًا لها الحول والطول في التحكم بمقدراتنا السياسية والاقتصادية. أي أن المؤامرة تبدأ من الخارج دائمًا. والحقيقة التي لا يجهلها كل من يحترم عقله، أنه ما من مؤامرة خارجية يمكنها أن تستفحل مالم توجد التربة الخصبة والفضاء الملائم لها. بعبارة أخرى، طالما تتوفر العوامل الذاتية، فالعوامل الخارجية تفعل فعلها. والعامل الذاتي، والبنية التحتية التي تتوفر في أرضنا هي الاستبداد؛ إنها ماركة محلية بامتياز! وبما أن الاستبداد بنية راسخة في ثقافتنا، فستكون الكابح الأكبر لكل تطلّع ديمقراطي. انظر إلى البيت والشارع والعلاقات الاجتماعية الأخرى، فإنها ستخبرك أن الوباء الحقيقي هو الاستبداد، والمشكلة أنه حتى هذه اللحظة لم يتوفر المضاد الفعّال لهذا المرض المزمن. 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أمنيات حاضرة وشروط غائبة

الرغبة بالتغيير.. بين الحلم والحقيقة