20-سبتمبر-2021

(Getty)

لم تندمج الجماعات الريفية القادمة من الجنوب في المجتمع الحضري، وظلّت شبكة العلاقات القرابية هي المهيمنة على مجمل تفكير وسلوك هذه الجماعات. ونتيجة للإهمال الذي تعرضت له هذه الأسر الفلاحية الهاربة من جور الإقطاع قادها إلى مزيد من الانغلاق على الذات. فسلوة العزاء الوحيدة لهم هو التمسك بقيم الجماعة وروابطها المتينة وسط مجتمع شبه حضري يميل إلى المصالح الاقتصادية، ولا يعرّف نفسه من خلال الهوية الجماعية ولا يقيم، بالمجمل، وزنًا للعلاقات الاجتماعية طويلة الأمد. وبدلًا من الاهتمام بالتعليم وتحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي، اتجهت هذه الجماعات لنقاطها المرجعية التقليدية؛ العلاقات الهرمية ذات البعد القبلي، والميل لحل النزاعات بالأحكام القبلية المتوارثة. وبمرور الزمن ظلت هذه الكتل البشرية معزولة عن كل ملامح التحضر والمدنية. يمكن القول إنها تكتلات ريفية وسط المدينة لا هي أسهمت بتطوير الواقع الزراعي في العاصمة ولا هي استطاعت، بتقصير الأنظمة المتعاقبة على العراق، أن تنتشل نفسها من هذه المأساة التي لا زالت شاخصة حتى هذا اللحظة.

نشوء الديكتاتور الصغير وسط أسرة ذات أصول ريفية لم تندمج طوال تاريخها في المجتمع الحضري هو تحصيل حاصل

ليس هذا فحسب، بل ملامح الجور والحرمان تتسع باطراد عبر تكرار الظواهر نفسها؛ فمدن الصفيح تنمو على أطراف العاصمة، ونسب التعليم لا تبشر بخير، والنزاعات العشائرية لم تتضاءل بل هي في تزايد ملحوظ. ظلت هذه التكتلات البشرية ذات الأصول الفلاحية وفية لإرثها وتاريخها وقيمها الجماعية؛ فقد ورثت الأجيال الجديدة واستلهمت ذات الأدبيات من أجدادهم النازحين من الريف. ومن الطبيعي لو كثفنا هذه الظواهر التي أفرزتها عمليات النزوح من الريف إلى المدينة ربما سنخرج بخلاصات متعددة، إلّا أن الخلاصة الملفتة للنظر، ولعلها الصيغة الجوهرية التي يمكن من خلالها فهم أهم التحديات التي تقف حائلًا لنشوء مجتمع مواطني ونظام ديمقراطي، هي نشوء ديكتاتوريات صغيرة وسط هذه التكتلات. وتتكاثر هذه الديكتاتوريات في أصغر البنى الاجتماعية وهي الأسرة. قد تقودنا هذه الخلاصة إلى زعم مفاده: إن نشوء الديكتاتور الصغير وسط أسرة ذات أصول ريفية لم تندمج طوال تاريخها في المجتمع الحضري هو تحصيل حاصل. فماذا ننتظر من رب الأسرة الذي وجد نفسه مقذوفًا في عالم مجهول لا يحسن التعامل معه، ولم تقدم له النظم السياسية المتعاقبة أدنى اهتمام ومحاولة إدماجه في الحياة الاجتماعية الجديدة عبر التنشئة الاجتماعية والتعليم. فلعل الصيغة الأكثر واقعية لهذا الحال هو الانغلاق على الذات حفاظًا على ما تبقى منها. والحل الأقرب إلى الواقع هو العزوف عن التعليم، والاهتمام بالوظائف المتدنية، والركون إلى "شريعة العشيرة"، والانصهار بقيم الجماعة، والاعتراف بالسلطة الهرمية التي يمثلها "الشيخ". كل هذا وغيره سيقودنا إلى استنتاج، وهو أن سيرة حياة الفلاح النازح لا تنتهي بتمجيد قيم الحرية والمواطنة بقدر ما ترميه في أحضان الاستبداد، وسيكون لاحقًا صورة مشوهة على شكل ديكتاتور صغير، خصوصًا أن النظم السياسية المتعاقبة كانت بينها وبين الديمقراطية نفور غريزي شديد، وهذا عنصر آخر يعزز قيم الاستبداد.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة والجماعة في العراق: من يتحكم بنا؟

لا توجد حلول سريعة لظاهرة اجتماعية تتسع بإطراد ولها جمهورها ومؤيدوها في المجتمع العراقي. ذلك أن التركيز على هذه الأسر العراقية  من جهة كونها تمثل طيفًا واسعًا من المجتمع العراقي، أما في الجانب الآخر من المجتمع فلا يعني غياب هذا الديكتاتور الصغير، وإن كان بتأثر أقل على ما يبدو. وبالمناسبة لم تعد الأجيال القديمة قادرة على الإفلات من قبضة هذا الديكتاتور الصغير، فإن كان ثمة أمل يلوح في الأفق فهو بالتأكيد مُوجّه إلى عموم الشباب من هذه الأجيال التي تصارع الآن ما ورثته من الآباء، إذا لا زال يعاني هذا الجيل من هذه الظاهرة وقد يترجمها لا شعوريًا في تفكيره وسلوكه وحواراته اليومية.

ويحسن التذكير أن الاستبداد السياسي في العراق لم يكن بتأثير النزوح الجماعي للأسر الفلاحية! ولا بتأثير الديكتاتور الصغير، وإنما ستنتج من كلا الأمرين علاقة تضامن شديد التأثير لولادة مجتمع يميل إلى الاستبداد. بمعنى لا توجد نقطة مرجعية يمكن الركون إليها لتحديد جذور الاستبداد، ذلك أن الظاهرة ليست نتاج علّة واحدة بقدر ما هي نتاج لأسباب وظروف متعددة. نعم، يمكن التركيز على سبب دون آخر لكونه يشكّل "علّة قريبة" ونعني بها بالذات هو المجتمع ذو الأصول القبلية.

على أي حال، تبدأ الخطوة الأولى للفرد العراقي للتفكير بجدّية حول التغيير في اللحظة التي يستقل فيها عن ذويه والقطيعة مع الديكتاتور الصغير. ذلك أن التقليد العراقي، على نحو عام، يتميز بالميل نحو الروابط الأسرية التي تحتم على الشاب غالبًا البقاء مع والديه أثناء الزواج، وإحدى مخرجات هذه القيم هو شيوع حالة الاستبداد. كلنا نعرف حجم المعاناة الأسرية من هذا الجانب؛ انعدام للخصوصية، وضيق المساحة، والتدخل في القرارات الشخصية، وبالخصوص في المناطق الشعبية ذات الأصول الفلاحية بالطبع، والميل للأنجاب بشكل مبالغ فيه، وكثرة المشاكل الأسرية، خصوصًا بعد 2003 وما تلاه من مشاكل أسرية عميقة حول الإرث وتقسيم المنازل الصغيرة إلى وحدات أصغر! ويندر أن توضع الخصوصية بنظر الاعتبار لدى المتزوجين من هذه الأساس، نتيجة للتنشئة التقليدية التي تعمّق روح القرابة، وإحدى نتائجها أن تبقى العائلة مندمجة فيما بينها حتى لو كان ذلك على حساب المتزوجين الجدد. بل حتى لو انشطرت العائلة وازداد عددها بفعل التزويج فسيجمعهم نفس البيت. لا زالت أغلب العوائل العراقية تمنع أبنائها من الحصول على بعض الخصوصية أثناء الزواج. إذ ليس بالضرورة أن يكون السبب ضيق العيش والعجز الاقتصادي لدى المتزوجين الجدد من الحصول على الاستقلال، بل لهذا الأمر جذور نعثر عليها في تفاصيل الشبكة القرابية التي تميل إلى المصاهرة بين الأقارب والبقاء في نفس البيت قدر الإمكان.

لقد انعكست روح الديكتاتور الصغير على مجمل فعالياتنا الاجتماعية والسياسية، وهي إحدى المشاكل الجوهرية في جنوح الفرد العراقي إلى اللا أبالية وعدم المشاركة الحقيقية في صنع الرأي العام بشكل مثمر. وغالبًا ما تُجمِع الأسرة الواحدة على نفس الرأي فيما يتعلق بالقرارات السياسية المصيرية، إذ يتجه عضو الأسرة للإدلاء بصوته واختيار ممثليه من خلال العلاقة الحميمية المتجذرة وتأثيرها على القرارات المصيرية. وهي تأثيرات، على أي حال، ليست شبيهة بتلك التي تحدث بين العوائل الأمريكية وانشطارها إلى جمهوريين وديمقراطيين!

غالبًا ما تُجمِع الأسرة الواحدة على نفس الرأي فيما يتعلق بالقرارات السياسية المصيرية، إذ يتجه عضو الأسرة للإدلاء بصوته واختيار ممثليه من خلال العلاقة الحميمية المتجذرة

 لا يمكن لديمقراطية أن ترى النور ما لم يتعلم الفرد العراقي معنى الخصوصية، فهذه الأخيرة ستقوده للتفكير في حياة حرّة كريمة. أما لو بقي الأمر كما هو عليه، فستتناسل ديكتاتوريات جديدة بحكم الوراثة! وتكمن الخطورة الأكبر في أن الدولة سيكون شكلها مماثلاً لسياقنا الثقافي، بمعنى، ستكون دولة الاتكالية من جهة ومجتمع يقدس الديكتاتوريات من جهة أخرى، فالتغيير في نهاية المطاف لا يحدث عن عفو الخاطر ما لم يضعف هذا الديكتاتور الصغير في ذاكرتنا الثقافية عبر القطيعة الحقيقية فكرًا وسلوكًا وليس بالشعارات الرنانة.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حرية التعبير في مجتمع أهلي.. أزمة دولة وزعامة

حين يضيع الوطن كقربان لأشواق الطائفة

دلالات: