01-أكتوبر-2020

ثمة معرقلات عديدة تعيق مسار التطور الطبيعي للاحتجاج (Getty)

جاءت انتفاضة تشرين كتتويج لثلاث موجات احتجاج رئيسية سابقة تقاربت فيما بينها على مستوى الطبيعة والأهداف وتمايزت بشكل شبه جذري عن تشرين ذات الطابع السياسي الواضح باستهدافها ما هو أشمل وأكثر جوهرية مما سعت إليه سابقاتها، حيث أنتج التراكم الكمي على مدى عقد من الزمان، منتجًا يختلف نوعيًا عما سبقه. يكفي أن نتمعن قليلًا بشعار "نريد وطن" لندرك مدى صحة الانطباع السائد حول ما بعد تشرين فالكل متفق، بما فيهم الخصوم، على أن ما بعدها لن يكون على اي حال كما قبلها.

الثمن الباهض الذي دفعته تشرين من دم شبابها لم يستثمر بالصورة الصحيحة التي تجعل المخرجات المباشرة للانتفاضة جيدة، أو  غير محبطة على الأقل

صحيح أن الانتفاضة بدت كطفرة وراثية أفرزت جيلًا يطرح أسئلة تقترب حد الاشتباك مع أسئلة الهوية والدولة، لكنها، مع ذلك، واجهت نسخة كاربونية من معوقات الاحتجاجات السابقة: هي ذات المشاكل وذات العثرات وذات النماذج المعتاشة على الاحتجاج، وذات الظواهر السلبية من قبيل دعوات تحويل الاحتجاج إلى نادٍ يصنف أعضائه إلى درجة أولى وثانية أو السعي إلى توظيف الساحات كأداة في صراع الهويات الفرعية التي تنشطر يوميًا كالأميبا! إذ لم يسعفنا نضجنا ووعينا السياسي كمحتجين، أو قل لم يمهلنا الجزء الشعبوي من جسم الحراك ما يكفي للإسهام في تأطير تشرين كحركة اجتماعية ذات بعد سياسي يفترض أن يكون لها تصور كامل عن شكل النظام السياسي والدولة وكيفية إدارتها أيضًا، وكنتيجة طبيعية لذلك، فقدنا فرصة ذهبية للتحرك كجماعة سياسية لا تتحرج من مزاولة للعمل السياسي المباشر - طبعًا لا أقصد هنا أن تتحول هذه الجماعة السياسية إلى طائفة أخرى تنضم لحفلة نهب الدولة، أو ما تبقى منها. إذًا لن نختلف كثيرًا إن قلنا إن الثمن الباهض الذي دفعته تشرين من دم شبابها لم يستثمر بالصورة الصحيحة التي تجعل المخرجات المباشرة للانتفاضة جيدة، أو غير محبطة على الأقل، فرغم خطواتها المتقدمة قياسًا بما سبق، بقيت النتائج أدنى بكثير من السقف الذي رفعته تشرين. 

اقرأ/ي أيضًا: مع حلول تشرين.. العراق على أبواب موجة من الاحتجاجات

اعتقد، إلى حد ما، أن أكثر الحالات تعقيدًا لا يبدأ تفكيكها بطرح الأسئلة التي في مستوى ذلك التعقيد، بل بالأسئلة الأكثر بساطة، فالآن، وبعد عام على الشرارة الأولى وما نعيشه من شبه انسداد يبدو كباعث لموجة "تشرينية" جديدة. اعتقد أن الأسئلة التي ولدتها التجربة هي: لماذا نبدو ككتلة بشرية تؤمن بالتغيير ديمقراطيًا لكنها تكفر بكل آلياته واشتراطاته؟ لماذا بقي الشارع أداتنا الوحيدة للتغير؟ لماذا لم نوجد نموذج بديل لهذه الطبقة السياسية؟ لماذا نحن عالقون في دائرة الشر المفرغة هذه: انسداد، احتجاج، تفتت الموجة ثم انسداد جديد .. الخ؟

ثمة معرقلات عديدة تعيق مسار التطور الطبيعي للاحتجاج نحو النضج والتنظيم والتمظهر السياسي، وبغض النظر عن ما يمكن أن نعتبره كعوامل خارجة عن إرادة الفاعلين كعمليات ترهيب الناشطين وتغييبهم أو انعدام الموارد المادية أو ما شابه، فيمكننا أن نرجع نشوء هذه العقبات إلى أسباب عديدة كانخفاض الوعي السياسي مثلًا، فالجيل الذي يحمل إرادة التغيير اليوم، والذي يبدو كوكيل حصري له، نشأ في مرحلة تعاقب فيها نظامان لا يختلفان من ناحية تشويه المفاهيم وإحالتها في أحيان كثيرة إلى النقيض، ولذا، ليس مصادفة أن يسود فهم مفردات: سياسة، حزب، انتخابات، كمفردات رديفة للفساد والمحاصصة والتبعية إلى الخارج.. الخ، وكمخرج مباشر لهذا التصور الخاطئ، تتم شيطنة كل ما له علاقة بالعمل السياسي. ثم أن هذه التصورات الخاطئة تقودنا، بالتظافر مع حالة انعدام الثقة بين المحتجين، نتيجة الخيبات السابقة، إلى تبني مواقف متصلبة اتجاه أي فكرة تطرح لتنظيم ساحات الاحتجاج على شكل تنسيقيات، تجمعات، أو مجالس لغرض ضبط إيقاع المواقف حول مستجدات الأمور، والذريعة دائمًا: الحفاظ على عفوية الحراك لتحصينه ضد محاولات ركوب الموجة، رغم أن العفوية، هذه، تتحول غالبًا إلى عامل تدمير ذاتي في المراحل التي يحتاج فيها الحراك إلى التكتيك والمطاولة والمناورة، إذ أن العفوية، بوجهها الآخر، قد تعني الفوضى وسهولة الاختراق والانحراف. ويمكننا أيضًا الحديث عن انحسار دور النخبة المثقفة، كأحد هذه العقبات، وعن أدائها دورًا غير الدور المأمول في عقلنة الأجواء وإعطائها ما يكفي من المرونة، لتحديد سقف يمكن معه انتزاع ما يمكن من مكاسب، بدل الانغماس في تصورات رومانسية تقودنا في كل مرة إلى نقطة الانسداد ذاتها - وللمناسبة فإن أوساطًا غير قليلة من هذه النخب تعتقد أن ساحات الاحتجاج مكانًا مناسبًا للتعبير عن هوياتنا الفرعية أو للتبشير بمتبنياتنا وطقوسنا العلمانية!

لكن، برأينا، يبقى الحديث عن هذه العوامل وغيرها حديث لا يمس جوهر المشكلة؛ هناك ما هو أعمق: إن سلم أولوياتنا لن يصيبه ذلك التغيير الذي يصنع الفارق إن ارتفع، لسبب ما، وعينا السياسي أو تغيرت إثر معجزة، طبيعة سلوك النخب؛ ذلك أن الأولويات يتم ترتيبها بالدرجة الأساس استنادًا إلى طبيعة فهمنا لذاتنا نحن المحتجين. وللمفارقة، ومع الأخذ بعين الاعتبار سطوة الـ أنا على سلوك البعض، فإن ما افترضناه من تغير في وعي وطبيعة سلوك النخب وغيرهم، قد يكون عاملًا مساعدًا لتعزيز ومضاعفة حالة الانقسام لا العكس، إذ أن كل جماعة منهم سترتب أولوياتها وفق فهمها لذاتها هي، ووفق ما ترى هي من مصلحة لا وفق ما تقتضيه الاستجابة الإيجابية للتحديات التي تواجه الحراك ككل. وهذا تحديدًا ما ينتج جملة من الظواهر السلبية كفوضى البيانات الصادرة من ساحات الاحتجاج مثلًا. وعلى خلاف ما هو ظاهر من حالة انصهار ووحدة قد تصنعها لحظة آنية لحدث ما، فإن تشظيًا على مدى ملحوظ يعتري جموع المحتجين، وإن بحثنا عن ما هو جامع لهذه الكتلة البشرية فقد لا نجد سوى النقمة. إن النقمة هذه، بالإضافة إلى الإيمان بقيم وعدالة قضايانا، تشكل دافعًا أكثر لربط الفرد بفرد آخر لصنع موجة تكتسح الشارع بتضحياتها وإقبالها على البذل، كما حصل وسيحصل، ولكن هذه الصمغة التي تصنع منا كتلة مندفعة إلى الشارع لن تصل بنا إلى ما هو أبعد من ذلك، بمعنى أدق: إن النقمة بوصفها عامل توحيد للمحتجين، والتي اعتقد أنها العامل الوحيد، لن تنفي حقيقة كوننا كتلة هشة لا يمكن أن يُصنع منها أرضية صلبة لمشروع سياسي، فالأخير يصعب بلورته فقط لكوننا جموع ناقمة. 

ولسنا هنا في محل الحديث عن رؤية طوباوية تفترض أن المحتجين يجب أن يكونوا نسخًا مكررة لفكرة أو تصورًا أو رؤية واحدة أو للتنصل من المسؤولية الأخلاقية اتجاه الاحتجاج بإلقاء اللوم على فئة أو شريحة منه، بقدر ما هي دعوة للمراجعة والنقد وعدم القفز على ما يجعلنا أكثر هشاشة دون معالجة، لأنّي كمحتج حريص على عدم إهدار الرأسمال الاجتماعي الذي أفرزته لحظة الانفجار في تشرين، أجد أن الاندفاع لصنع البدائل السياسية التي تمثل أجواء تشرين، دون الاستناد إلى قاعدة اجتماعية متماسكة، لا يعدو كونه تكرارًا لفشل الكيانات السياسية التي أفرزتها الاحتجاجات السابقة، وتكريسًا لدائرة شرٍ مفرغة تستنزف ما تبقى من أمل في إزاحة هذه الطبقة السياسية التي تبدو كنقابة للقتلة واللصوص. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

استذكار للضحايا ووعود بالعودة.. ناشطون يحيون الذكرى السنوية لانتفاضة تشرين

إحاطة أممية مخضبة بدماء 20 ألف متظاهر.. العالم ينصت إلى صوت شبان العراق