07-ديسمبر-2020

يحتاج الجيل الجديد إلى رأس مال اجتماعي من القيم والخبرات والأخلاقيات (Getty)

يذكر أحد الكتاب ما مضمونه: في سوق رمزية لا يمكنك أن تروّج لبضاعتك الفلسفية حتى لو كنت أرسطو. ذلك أن الأفكار، مثلها مثل البضائع والسلع، تخضع لموازين العرض والطلب، وستبدو "بضاعة" رمزية، مثل الفلسفة، كاسدة لا تحظى بمستهلكين كثر. على أي حال، فالعقلانية، عمومًا، لا تجد لها مساحة واسعة في أسواقنا الرمزية، ولا تجد لها جمهورًا واسعًا، مثل جمهور برامج الطبخ، وجمهور الاستشارات الروحانية ورؤية الطالع، وجمهور الإعلام التافه، ونحو ذلك. فلنأخذ على سبيل المثال: ماذا يعني أن تكون طالبًا في العلوم الطبيعية في بلد عربي مثل العراق؟ لا شيء سوى ورقة جامعية تثبت تأهيلك العلمي، فما عدا ذلك ينبغي عليك أن تعثر على وظيفة تسد رمقك، أما هذا الاختصاص فبضاعته ليست مطلوبة.

يمكن القول إن إطار الثقافة العراقية أنشأ له سوقًا رمزية طبقًا لصورته ومتطلباته، تحتوي على بضائع معينة، وهذه البضائع يحددها المذهب والعشيرة. فمن هنا، لو تم الترويج لحرية التفكير وحرية التعبير، فستغدو مشكلة اجتماعية عويصة، ذلك أن الحرية، في عرفنا الثقافي بشكل عام، رديفًا للتحلل والإباحية، وربما الإلحاد. ثمّة عذر مستهلك يسوقه عادة بعض المنتمين إلى الجمهور المؤمن، خلاصته: إن الفئات الاجتماعية التي تتغنى بالحرية كثيًرا، لا نرى في سلوكها سوى التحلل والإباحية. كما لو أن الحرية أضحت هنا تابعة لهذه الفئات! أو نتخذ من هذه الفئات معيارًا صارمًا لمفهوم الحرية. وببساطة شديدة، أنه نمط من التبريرية الفجّة، و"الحقيقة في مكان آخر"، والجذر الأساسي لهذا التبرير بشكل دقيق: إننا نخاف من الحرية، لماذا؟ لأنها تعد مشكلة اجتماعية في منظومة قيمنا، و"بضاعة" لا تجد عليها طلبًا من عموم المستهلكين.

إن الضربات المميتة التي وجهتها السلطة ضد المحتجين ترجمت هذا الخوف من الحرية بشكل دقيق، ذلك أن الأجيال الجديدة حاولت الاستثمار الاجتماعي والسياسي خارج إطار القواعد التنظيمية للثقافة المهيمنة، فانتفضت العادات لنفسها؛ فالجوع، والفقر، والخوف، ونهب الثروة، وضعف مؤسسات الدولة، والتفاوتات "الطبقية" الحادة، والتقسيمات الطائفية، وسير الأمور نحو المجهول. كل هذا يمكن الصبر عليه، والإذعان له، والتصديق بالوعود (إن كانت هنالك وعود)، لكن إلّا منظومة القيم العشائرية والمذهبية، فهي تشكل وجودنا الأصيل وما عداها زائف. فالبضاعة الرمزية التي عرضها هذا الجيل في السوق الرمزية لم تعجب الكثير. وبالطبع رافقت هذه الحركة الاحتجاجية الكثير من التلكؤات، ولا أحد يمكنه وضعها في خانة التقديس. فنقد الحركة من الداخل ضروري للغاية (رغم قلة خبرة الشباب وعزوفهم عن الإصغاء للملاحظات النقدية، وكما يبدو أن الذاكرة تفعل فعلها!) أما التبريرات التي أطلقتها بعض الفئات فلا يمكن أن نأخذه بجدية باعتباره نقدًا تقويميًا، بقدر ما هو خطاب عقائدي يشعر بالخوف من الحرية!

الكلام عن السلطة وجمهورها لا يأتِ بشيء جديد، كما قلنا سابقًا، والغرق بوصف الأحداث دون تفسيرها لا يقدمنا خطوة. حينما تصف السلطة كما لو أنك تقول إن الكرة جسم مستدير! على أي حال، إن ما نحتاجه أكثر من الوصف؛ يحتاج الجيل الجديد إلى رأس مال اجتماعي من القيم والخبرات والأخلاقيات، واستثمار اجتماعي -بحسب بورديو- يوظفونه كفاعلين اجتماعيين لكي يخلق الروابط والاعتياد على الممارسة المُمَأسَسَة. إنهم بحاجة إلى شبكة علاقات اجتماعية (رأس مال اجتماعي) وعلاقات ومعارف وصداقات والتزامات، لكي يسهمون في عملية البناء الاجتماعي، إذ لا زالت ثقافاتنا تبدي ممانعة شديدة تجاه التغيير، وإذا استمرّت هذه الأجيال بتغليب منطق الحماسة على منطق العقل، ومنطق الحساسيات على منطق الصداقة، ومنطق الفوضى على منطق العمل المنظم، فسنغدو جمهورًا سلطويًا دون أن نشعر، وستغدو بضاعتنا كاسدة ومشابهة لبضائع الآخرين.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

التغيير وشروط الواقع

طبيعة الصراع وإشكالياته الغائبة