15-يونيو-2020

عشرون دقيقة ربما هي أسرع "حوار استراتيجي" عرفته الأدبيات السياسية بين العراق وأمريكا (فيسبوك)

عندما ينظر المرء إلى المشرق العربي في تحديده الأضيق (منطقة الهلال الخصيب) تنتابه رائحة مزعجة لا يلبث أن يكتشف أنّها رائحة الموت. غسّان سلامة- المجتمع والدولة في المشرق العربي.

قوانين المركز تختلف عن قوانين الأطراف، فما يجري من شروط على الأولى لا يجري على الثانية. لا توجد مقارنة بالأصل بين إمبراطورية ضخمة وبين دولة تابعة. الدول الإمبراطورية تتبادل الهيمنة فيما بينها؛ هي من تضع قوانين السلم والحرب، وتقنن شكل الاقتصاد العالمي الذي يجب أن يُتَّبَع، وتحدد شكل الولاء المفروض، فلا أحد يمتلك ترف الاختيار من البلدان التابعة. ولا يحق لهذه الأخيرة العمل على تطوير وضعها السياسي والاقتصادي خارج معايير المهمين.

كانت ثورات الربيع العربي ردة فعل طبيعية لمسارنا السياسي المتعثّر، وإعادة النظر في هذه الأنظمة المهزومة والمنكسرة

على سبيل المثال، كانت معايير الدولة الجيّدة هي مقدار العداء الأيديولوجي للدول الاشتراكية، أن تكره الاشتراكية واليسار وأن تغدو رأسماليًا مطيعًا للمهيمن فذلك هو المعيار الذي يضمّك كطرف تابع، وضعيف طبعًا، لنادي الأقوياء، وبخلافه ستندرج في قاموس الإمبراطورية الرجيم. ربما ستتغيّر المعادلة في المستقبل القريب وتغدو الصين الأيديولوجية الجديدة التي تهدد قيم المهيمن الغربي ويعاد طابور الاصطفافات من جديد: دول "مارقة" لأنها تقف مع النظام الشمولي الصيني، ودول "صديقة" يمنح الكبار أنظمتها هامشًا من الحرية، كالتنكيل بشعوبها وإفقارهم، ولا عيب في ذلك طالما بقيت هذه الأنظمة طيّبة ووديعة ولا تورّط نفسها في الأسئلة الكبرى، كالحرية والديمقراطية والعدالة، فهذا الهامش موكول لمراكز القرار العالمية.

اقرأ/ي أيضًا: الحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي.. قراءة أوّلية

 لمشرقنا العربي معايير خاصّة؛ فأنت لست مطالبًا أن تبقي ما كان على ما كان فحسب، بل عليك أن تبقى معلّقًا بين السماء والأرض، ينبغي أن تبقى الهوية الاقتصادية والسياسية غامضة؛ هل هو نظام ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة في الطرق السلمية؟ هل هو نظام ملكي دستوري، هل أنت رأسمالي أم اشتراكي أم مختلط؟ هذه الأسئلة ليست مهمّة، بل المهم في سجّل الأولويات في مشرقنا العربي أن تأخذ صك الضمان من إسرائيل، وأن تجلس على طاولة "الحوار". لكن أي حوار هذا؟ أن تجلس وأنت مقطّع الأشلاء، ضعيف، منكسر ذليل، وستجد أمامك على طاولة الحوار ملفاتك الشخصية ومقدار الثروة التي سرقتها وهي في الحفظ والصون في المصارف الغربية. بكلمة أخرى: لا يمكن الاعتراف بك إلّا وأنت ضعيف لكي يضمن "المحاور" قبولك بالشروط والإملاءات التي لا تصب في صالح شعبك.

كانت ثورات الربيع العربي ردة فعل طبيعية لمسارنا السياسي المتعثّر، وإعادة النظر في هذه الأنظمة المهزومة والمنكسرة، فما كان على هذه الأجيال الجديدة الثائرة سوى المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة. لكن هذه الحركة الكبرى لم تكن في سجلّ المهيمن الغربي وشروطه الخاصّة لهذه المنطقة المغضوب عليها، فعليه لا بد من التدخل، ولقد تم على أثر هذا التدخل أن يكرمنا برئيس لمصر يتوافق مع مقاساته الخاصّة، وأربعة بلدان محطمة (العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا) لا زالت تنزف دمًا قانيًا حتّى هذه اللحظة. وبالطبع ينتظر هذه البلدان الأربعة "حوارات استراتيجية" تحدد موقعها في العالم بعد تقطيع أوصالها بالحروب الأهلية، ودعم أنظمة دموية تجيد الحوار ضمن المقاسات التي يضعها المهيمن.

المهيمن الغربي حريص كل الحرص على سجّل حقوق الإنسان، فهذا الأخير أضحى سجلًا لابتزاز الدول الضعيفة وأنظمتها المستبدة، ليس لأنّها أنظمة وحشية بل لأنّها لم تبدِ موقفًا مقنعًا لإدخالها في قائمة الأصدقاء. يمكن لسجون مصر أن تمتلئ عن بكرة أبيها بالأبرياء، فسيبقى الرئيس المصري صديقًا مُحببًا وعضوًا مهمًّا في هذا النادي الكبير، بل حتّى لو يتم  اغتيال صحفي معروف وتقطيعه أشلاء في أحد السفارات فهذا لا يهم على الإطلاق، ذلك إن تدفّق الثروات نحو مصارف الغرب هو الأهم. فنحن كما نرى في مشرقنا العربي تغدو الشروط والمعايير مختلفة جذريًا عن باقي؛ فلا نحن أعضاء رسميين، ولا أصدقاء مُعتَرفٌ بهم، ويمكن توصيف أنظمتنا بمخلوقات "الزومبي"؛ لا هي ميّتة ولا هي حيّة تفترس كلّ من يقف أمامها، هذا من جهة الأنظمة. أمّا من جهة الشعوب فهي لا تعدو أن تكون "خراف" مُعدّة للذبح والنتيجة، كما يوثّقها غسّان سلامة: "ترتفع الأعلام السود على الشرفات وتتزايد صور "الشهداء" على الجدران وفي قاعات الاستقبال". فالموت هو الضريبة الباهظة التي يدفعها المرء في مشرقنا العربي. ذلك أن الوت يتمتع بمردودات ربحية عالية لشركات السلاح الكبرى، كما يقول علي القادري، إذ لا عهود ولا مواثيق يمكنها أن توقف شلال الدم في هذا المشرق اللغز. فلكي تكون "محاورًا" مقبولًا لا بد أن تكون فاسدًا وضعيفًا وجلّادًا لشعبك. فمن هنا نفهم مقدار الوقت المحدد لـ"الحوار الاستراتيجي" الذي سيعقد بين الطرف العراقي والأمريكي: إنّها 20 دقيقة فيما يخصّ الشأن السياسيّ! هذه مدّة كافية لإعلانك طرف محاور في دولة طرفية ينخرها الفساد والموت. عشرون دقيقة ربما هي أسرع "حوار استراتيجي" عرفته الأدبيات السياسية، وتقرر في حينها إمّا معنا أو ضدنا، أو تبقى في حالة "البرزخ"، ويبقى طابور الموت البطيء في الانتظار.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سبعة قرون من الاستبداد

"شرط الانتقال" المتعثر.. إنك لا تختار وزراءك مرتين