18-نوفمبر-2019

المتظاهرون في العراق رسموا لوحة تلمح إلى رفض تدخل أمريكا وإسرائيل والسعودية وإيران (Getty)

بعد أن فجّر الشباب انتفاضة تشرين ونجحوا فيما فشل به الآخرون، يطل علينا بعض"الحريصين" على هذا الحدث الشبابي المميز، والذي يُعد علامة فارقة ومهمة في المشهد السياسي العراقي، محاولة منهم ترجمة هذا الحرص بملاحظات مشككة حينًا، ومتعاطفة حينًا آخر، يسوقها إدعاء "الخوف" على جر الانتفاضة إلى مسارات أخرى.

بعض المحلّلين نددوا بهذه الانتفاضة العراقية ليس لشيء سوى أنها أعلنت غضبها تجاه السياسة الإيرانية في العراق، ويتساءل هؤلاء: لماذا إيران وليس غيرها؟

ولقد حرص هؤلاء على إظهار ملاقطهم الناعمة والدقيقة للغاية في تصوير بعض المشاهد التي لا تنسجم وأهداف الانتفاضة المُعلنة، كما لو أن هذه الحشود البشرية خضعت لتدريب عالي الدقة، ولعلهم يريدون منها أن تنتظم في مسيرات مشابهة لاستعراض جيش التحرير الشعبي الصيني! ونحن بالطبع لا ننطلق من حماسة عاطفية لنصدّق على كل السلوكيات التي حدثت أو تحدث في هذا الحدث السياسي الكبير، وإنما نشير، من زاوية محددة، إلى هؤلاء الذين نددوا بهذه الانتفاضة ليس لشيء سوى أنها أعلنت غضبها تجاه السياسة الإيرانية في العراق، ويتساءل هؤلاء: لماذا إيران وليس غيرها؟

اقرأ/ي أيضًا: نظرة إيران إلى احتجاجات تشرين.. عداء لشيعة العراق

وطبعًا، لا يحق لي ولأمثالي الوقوف تجاه أهواء الناس وميولاتهم وقناعاتهم، أعني بالضبط، ميول البعض تجاه السياسيات الإيرانية. وفي الحقيقية نحن نخالفهم جملة وتفصيلًا في هذه القناعة، لنقول، إن إيران ليست دولة شريرة، ولسنا في عداء دائم مع هذه الجارة، وإنما نرفض، كعراقيين لا أكثر، التدخلات السافرة لكل من الولايات المتحدة الغادرة وإسرائيل وأعشاشها الجاسوسية في شمال العراق وتركيا واختراقاتها المستمرة لسيادة البلد ودول الخليج وأموالهم السحت التي تمول الجماعات الإرهابية وإيران وهيمنتها على الملف السياسي ودعم بعض الفصائل المسلحة.

كما ولا أظن ثمّة عاقل على وجه الأرض يتقبّل ذلك الاختراق السافر لسيادته الوطنية، أو تحويل بلده إلى بندقية للإيجار. نحلم، كعراقيين أولًا وآخرًا، بوطن مزدهر ومستقل، ودولة مؤسسات رصينة ، وقضاء نزيه، وأحزاب فاعلة وحقيقية، وحصر السلاح بيد الدولة، باعتبارها الكيان الوحيد الذي يمتلك شرعية العنف. ونتوق إلى جيرة طيبة ومنتجة مع الدول المحيطة بنا، ونتمنى أن نتخلّص، كعراقيين، من كل هذه السياسات العالمية والإقليمية التي تجري على أرضنا. فهذا هو الدافع الأول والأخير الذي خرج من أجله الشباب، وليس تنديدًا بالسياسيات الإيرانية فقط!

ومن غرائب النكات المضحكة، إن المشككّين استطاعوا أن ينفذوا "بعمق" و"يفككوا" جوهر هذه الانتفاضة، ويتساءلوا: لماذا السفارة الأمريكية تؤيد التظاهرات، ولماذا يدعمها، إعلاميًا، أمثال المشبوه سعد البزاز؟ ويظهر من هؤلاء إن مجرد التأييد - حتى لو كان رسميًا - يجري بمنزلة "المؤامرة". فعلى سبيل المثال، لو صرخ البعثيون تمجيدًا لهذه الانتفاضة، فينبغي على شباب تشرين الإسراع إلى المحاكم الدولية ليعلنوا براءتهم من تفاهة البعثيين وألاعيبهم المضحكة، وعلى الشباب التنديد بأي خطاب يتعاطف مع هذه الانتفاضة ليسلم من فيروس الريبة الذي يعشعش في أذهان بعض "المحليين".

والحقيقة أن ما يتفوّه به هؤلاء لا مكان له سوى في أذهانهم، وأعني بالضبط رغباتهم التي تحاول تظهر بمظهر المعرفة والتحليل. لأننا نعلم جيدًا بعض القنوات الإعلامية المريبة  لو لم تغطي هذا الحدث لكان الأمر أكثر غموضًا، وسوف نتهمها بلعب دور الجاسوس الغامض الذي يلعب من وراء الكواليس. وبصرف النظر عن هذا وذاك، فهذه القنوات وسياساتها معلومة لدى الجميع، وشباب الانتفاضة أذكى من ذلك بكثير؛ فعلى سبيل المثال حينما يصرّح جماعة الخضراء بتأييدهم لهذه الانتفاضة، فحالهم لا يختلف عن المؤسسات الإعلامية المأجورة، أعني سيتم معاملتهم على حد سواء. فإذا مشينا عدة خطوات مع المحلل البوليسي فربما تعلن أذهاننا استقالتها مبكرًا.

نحلم، كعراقيين أولًا وآخرًا، بوطن مزدهر ومستقل، ودولة مؤسسات رصينة، وقضاء نزيه، وأحزاب فاعلة وحقيقية، وحصر السلاح بيد الدولة

لا يتوقف " التحليل" عند هذا الحد؛ فقد استباحوا لخيالهم أن يطعنوا في جريدة "تكتك" الشباب البسيطة، ويعلن تحليلهم البوليسي من أنها جريدة غامضة ولم يتم التصريح عن مصادر تمويلها، مضافًا إلى أنها تحصر موادها الإعلامية في التنديد بالسياسية الإيرانية. وبدون أدنى شك، لم يطلع هؤلاء على تفاصيل الجريدة، بل لم يطّلعوا -أغلب الظن- على هوية الكتّاب وصورهم المرفقة مع نصوصهم!  والنكتة الثانية، تدفعهم رغبتهم البوليسية لمعرفة مصادر تمويل هذه الجريدة. وأنا في هذه اللحظة  أشعر أن الكلام موجه إلى "واشنطن بوست"!

اقرأ/ي أيضًا: إيران و"فوبيا" العراق

وإن كان الموضوع يثير الضحك والاستغراب حول مصادر تمويل هذه "القنبلة/الجريدة، فعلى هؤلاء أن يفتحوا أدمغتهم جيدًا ويسألوا سؤال أكبر: كيف موّلت هذه الانتفاضة نفسها كل هذه المدة؟! من جعل بناية المطعم التركي بهذه الحلّة الجديدة؟ كيف تم تجهيز المنتفضين بوسائل طبية كاملة؟ من جلب خيم الاعتصام؟ بكلمة واحدة، من هو المسئول عن هذه الإمدادات الضخمة؟ الجواب ببساطة شديدة: إنه الشعب!، ومن يشكك بهذه الإجابة التبسيطة، فعليه القدوم إلى ساحة التحرير ويرى بعينه بمعزل عن رغباته البوليسية.

من الواجب والضروري إبداء الملاحظات النقدية لتقويم سير الانتفاضة، فهذا أمر مهم للغاية، فحدث سياسي بهذه الأهمية، ومساحة بهذه الكتلة البشرية الهائلة، لا يمكن عصمتها من الهفوات، لكن هل حقًا يجري تقييم الانتفاضات والثورات بهذه المعايير الطهرانية؟ أظن لا وجود لهذه المعايير سوى في أذهان الذين يبحثون عن مجتمع فاضل. والحذر كل الحذر من عدم التمييز بين الرغبة بصفتها هوىً نفسيًا يريد قبل الواقع طبقًا لأهوائه المعقدة، وبين المعرفة كمعيار لخلق إمكانيات جديدة للفكر والحياة، فنحن مع الثاني أيًا كانت قساوته، وضد الأول لأنه من وظيفة المحلل البوليسي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تكتك.. جريدة شبابية جديدة من ساحة "التحرير"

ساحة التحرير.. روح الفريق قيادة للاحتجاجات!