25-ديسمبر-2021

استطاعت القوى الدينية أن تحرك الوجدان القمعي بحجّة التهتّك بواسطة الحفلات الماجنة (فيسبوك)

تتوفر في صحافتنا المسموعة، والمقروءة، والمرئية، خلاصات وافية عن الفساد والمفسدين. لا بل تفاصيلَ مملّة عمّا يجري في أروقة السلطة. ليس هذا فحسب، يمكن أن تعثر على كمٍ هائل من ملفات الفساد المُكَدَّسَة، ربما لأسباب قانونية، في هيئة النزاهة.

 ليس من مسؤولية خطيب المنبر تحديد الأسماء لكن المقصود هنا هو حجم المسكوت عنه في توعية الناس عن خطورة الفساد باعتباره المجون الأكبر

كل هذه الحقائق يسردها سياسيو الخضراء؛ أعضاء هيئات، برلمانيون، سياسيون سابقون، وزراء، إلخ.. حتى تصل لنتيجة مفادها: إن الفساد شبح غير مرئي، أو أنه قصة أسطورية لا وجود لها في الواقع، وإلّا ليس من المعقول أن يظهر لنا كل هذا الكم من فاعلي الخير ومحبي الشفافية والمدافعين عن حقوق المهضومين، كما لو أنهم ليسوا شركاء في ما يحصل.

اقرأ/ي أيضًا: الدين ضحية السلطة

من جانب آخر، يتغذّى رجال المنبر على قضايا هي من سقط المتاع، ولا أثر لها في الواقع. وعدوّهم الأزلي هو المجون، والتحلل، والخلاعة. أما المجون السياسي الذي يمكنه إسقاط مجتمع بأكلمه يبقى مسكوت عنه وإن تكلموا عنه فباستحياء. غير أن حفلة عابرة يمكنها أن تلهب خيال خطباء المنبر، حتى أن بعضهم قال بالحرف المليان "ينبغي أن لا تمر هذه الحالة" وهو تهديد مبطن لمحاربة الحفلات القادمة. ليس مهمًا، في نظر هؤلاء، فساد الحاكم السياسي طالما ينتمي لمنظومتهم المذهبية، حتى لو يتحولون جزءًا من هذا الفساد المستشري في المنظومة السياسية. ولو تعلق الأمر بقضية عابرة لأقاموا الدنيا ولم يقعدوها.

لا نجوم الفضائيات، ولا بعض نجوم المنبر استطاعوا أن يحددوا لنا ما هو الفساد الحقيقي، ومن هم الفاسدون الحقيقيون. لا نسمع سوى عن أشباح، وأن اكتشفنا هوياتهم فلا شيء يتغير خصوصًا إذا كان الفاسد عضوًا في الأحزاب الدينية. صحيح أنه ليس من مسؤولية خطيب المنبر تحديد الأسماء، لكن المقصود هنا هو حجم المسكوت عنه في توعية الناس عن خطورة الفساد باعتباره المجون الأكبر. لكن هذا غير مهم طالما تتوفر الطقوس الشعبية.

استطاعت قبل أيام سلطة القوى الدينية أن تحرك الوجدان القمعي لجمهورها السعيد بحجّة التهتّك والخلاعة بواسطة الحفلات الماجنة التي يقيمها "الفنان" المصري محمد رمضان. ستهون المسألة بالتأكيد لو كانت الاعتراضات نابعة من تلويث الذائقة البصرية والسمعية نتيجة هذا الفن الهابط والتافه الذي يقدمه أمثال محمد رمضان. أنا شخصيًا لا أقوى على مشاهدة الرجل لخمس دقائق، ولي عذري في ذلك، وأرجو أن تسامحني جماهير محمد رمضان السعيدة أيضًا! فالجماهير السعيدة تتفاضل فيما بينها؛ جمهور سعيد تنحصر متعته بإثارة الوجدان القمعي حتى لو لم يكن معنيًا بكل ما يجري، وجمهور سعيد يشعر بالاحتقار والدونية ما لم يستنشق عطر الفن الهابط.

الجمهور الأول أكثر خطورة من الثاني، فهذا الأخير كما قلنا يلوّث الوجدان الفني، أما الأول فيلوث الوجدان الديني عبر التجزئة والتحيّز لقضايا دون غيرها؛ فهو يثور من أجل "فنان" يُعتَبَر ظاهرة عابرة وقابلة للنسيان في أي لحظة، بينما يسوّف ويماطل ويغض الطرف إذا تعلق الأمر بقضايا كبرى، وما أكبر القضايا وأفحشها في واقعنا السياسي لدرجة يصعب علينا استثناء جميع السياسيين.

إن جمهورًا بهذه الذهنية هو جمهور فاسد أيضًا، وبتعبير مظفر النواب "يدافع عن كل قضايا الكون ويهرب عن وجه قضيته". لا نجد لديهم حضورًا في الملفات الكبرى والحساسة، لكن إن تعلق الأمر بالهامشي والعابر فستجدهم في المقدمة تعلوهم الحماسة والغضب، خصوصًا إذا تعلق الأمر بالترويج لشخصيات مذهبية أوقبلية.

نحن نقدر، مثلًا، أعراض الحمّى الانتخابية وتسويق الكثير من المثل العليا في تلك اللحظات الحاسمة. لا ننسى مثلا كيف تم تسويق قائمة "الشمعة" أو "555" في الأعوام الأولى التي تلت التغيير، وكيف تم ترويجها على أنها قضية ثواب وعقاب، ونحو ذلك. هذا يحدث في أرقى البلدان الديمقراطية (مع الفارق بالتأكيد). كان شيراك يؤخر قضية المختطفين الفرنسيين في لبنان أثناء الحرب الأهلية إلا بفترته الرئاسية تحديدًا، بعد فوزه بالانتخابات، فالقضية واضحة ومعلومة إذا تعلّقت بالنفاق السياسي.

إن الناس ليست مغفلة لهذا الحد؛ لأنها ستتساءل عن مافيات الفساد، وستتساءل عن محافظات الجنوب المنكوبة، وستتساءل عن البنى التحتية والخدمات، والعقود المُزيفة، والأموال المهدورة، والسلب والنهب الذي لم يتوقف طيلة أكثر من عقد ونصف. إذًا أين المشكلة؟ المشكلة حين توظّف مثلًا عليا تحتل مساحات واسعة من الوجدان الديني وتحاول توظيفها سياسيًا. ويغدو الأمر على هذا المنوال: فاسدون متورطون بنهب المال العام يدافعون عن القيم العليا ويقسمون الناس حسب امزجتهم إلى فسطاط إيمان وفسطاط كفر، فتتحول العملية السياسية إلى معركة دينية ذات نسخ تاريخية مشوهة.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

التلوّث النفسي في بيئة الإسلام السياسي

عن الاستعمار والاستقلال.. محاولة لفكّ الالتباس