غادر عالمنا هذا الصباح عالم الاجتماع العراقيّ فالح عبد الجبّار إثر نوبة قلبيّة مفاجئة، بعد أن صدر كتابه الأخير، قبل أسابيع قليلة، عن "المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات"، تحت عنوان "دولة الخلافة، التقدّم إلى الماضي: داعش والمجتمع المحلي في العراق"، مقدّمًا فيه دراسة شاملة حول الحاضنة الاجتماعيّة التي لعبت دورًا مهمًّا ومركزيًا في صعود ظاهرة "داعش" وتوسّعها. مؤكّدًا أيضًا أنّ الحالة القائمة للحركات الجهاديّة وما وصلت إليه هو نتاج ما أسماهُ في كتابه بـ"الدولة العربيّة الفاشلة" التي أخفقت في خلق وبناء سياسات ومؤسّسات وطنيّة ومجتمعات مدنيّة تنطلق من الاعتراف بتعدّد الهويّات.
غاصت أعمال الراحل فالح عبد الجبار في القضايا الدينيّة والطائفيّة ودراسة نشوء الحركات السياسيّة الدينيّة في العراق
ليس هذا الكتاب إلّا واحدًا من عشرات الكتب الفكريّة التي دأب الراحل فالح عبد الجبار من خلالها على دراسة المواضيع الشائكة عربيًا وعالميًا، باحثًا في جذورها ونشأتها في سياقاتها التاريخيّة المختلفة أوّلًا، باعتبار ذلك يمهّد الطريق إلى الخوض في غمار توضيحها ومعالجتها وتحليل الأسباب التي تقف خلفها، وتبيان مواطن الخلل في ما يُطرح بهدف معالجتها ثانيًا، دون أن يحيد، حين يلزم الأمر، عن النقد والنقد اللاذع، الذي لا يُخضعه فالح عبد الجبّار لأية صبغة أيديولوجيّة، فهو الذي عُرِفَ، على الرغم من كونه علمانيًا، بنقده المستمرّ للعلمانيين العراقيين الذين فشلوا في التعبير عن تطلعات الشعب العراقيّ والتعايش معها.
اقرأ/ي أيضًا: فالح عبد الجبّار.. دولة فاشلة في الدولة الفاشلة
غاصت أعمال فالح عبد الجبار في القضايا الدينيّة والطائفيّة ودراسة نشوء الحركات السياسيّة الدينيّة في العراق، وقدّم في هذا المجال بحثًا مهمًّا عمل على توضيح الكثير من المفاهيم المغلوطة حول الحركة السياسيّة الشيعيّة في العراق وتأثيرها في المجتمع العراقيّ ونتائجها، مؤّكدًا أنّها سبقت الحركة السياسيّة الشيعيّة الإيرانيّة ولم تنشئ بسببها، بيد أنّها لم تحظ بما حظيت به الأخيرة، وذلك في كتابه "العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني".
شغل الراحل فالح عبد الجبار بقضايا الديمقراطيّة والعلمانيّة والمجتمع المدنيّ حيّزًا واسعًا من اهتماماته البحثيّة، إذ ترتّب على غيابها عن مجتمعاتنا العربيّة ما تعيشه الآن من أزمات وحروب طائفيّة وأهليّة. بالإضافة إلى الشيوعيّة والماركسيّة التي تناولها فالح عبد الجبار ناقدًا لا دارسًا وباحثًا فقط، لكونه دائم الاحتكاك مع هذه الأفكار وتراثها. بالإضافة إلى مساهماته الواسعة في مجال الترجمة، حيث ترجم عدّة كتب في مجالات فكريّة مختلفة، أهمّها "رأس المال" لكارل ماركس، و"موجز رأس المال" لفريدريك إنجلز، إضافة إلى إشراف فالح عبد الجبار على ما ترجمه "المركز العراقيّ للدراسات" الذي أسَّسهُ بنفسه، وأثرى المكتبة العراقيّة بدراساته وترجماته التي تعدُّ من أدّق المُنجزات التي تناولت الواقع العراقيّ.
بعيدًا عن فضاء الدراسات والأبحاث العلميّة والفكريّة، يعتبر فالح عبد الجبّار مساهمًا بارزًا في الحركة الاحتجاجيّة العراقيّة، داعمًا ومُنظِّرًا، وناقدًا أيضًا للحالة السياسيّة العراقيّة التي تُعوّقُ تطبيق الديمقراطيّة أوّلًا، وتُفسح المجال لظهور الجماعات الطائفيّة المُتشدِّدة على اختلاف خلفياتها وانتماءاتها ثانيًا.
يعتبر فالح عبد الجبّار مساهمًا بارزًا في الحركة الاحتجاجيّة العراقيّة، وناقدًا للحالة السياسيّة التي تُعوّقُ تطبيق الديمقراطيّة
اقرأ/ي أيضًا: سنان أنطون: تركت العراق لكنه لم يتركني
وهو الأمر الذي تناوله فالح عبد الجبار، كما أسلفنا سابقًا، في كتابه الأخير، والذي قدّم به مساهمةً مهمّة وضروريّة لمن يرغب في التعمّق في حالة الجماعات الجهاديّة ونشوئها ودور الأنظمة العربيّة "الفاشلة" في توسّعها وانتشارها. كما أنّهُ قدّم في كتابه هذا جديدًا كتابيًا يتعلّق بالحاضنة الاجتماعيّة، وتحديدًا تلك التي على صراعٍ مع الحكومات والأنظمة، التي سهّلت على تلك الجماعات بشكلٍ عام، وتنظيم الدولة الإسلاميّة بشكلٍ خاصّ، خلق وتكوين قاعدة شعبيّة الهدف منها ليس كسب المجتمعات المحليّة بقدر جذب أكبر عددٍ من المقاتلين إلى صفوفها. ويعني الراحل فالح عبد الجبار هنا بالمجتمعات المحليّة تلك التي تشربّت العنف والحقد خلال العقود السابقة في عهد صدّام حسين. ويبدو لزامًا علينا هنا أن نذكر ما قاله فالح عبد الجبار بعد سقوط صدام حسين واحتلال العراق، إذ قال حينها إنّ ما يحتاجه العراق لكي يفرّغ العنف الكامن في مكوناته الاجتماعيّة هو عشر سنواتٍ دامية تمنحهُ بعدها الاستقرار.
اقرأ/ي أيضًا: