06-فبراير-2020

لا توجد ثورة معقّمة ومن يرد تعقيم ثورة ما يقمعها (الترا عراق)

هل فات الأوان على التحذير من الفتنة لأن الفتنة وقعت فعلاً؟

ثمانية شهداء في ليلة واحدة بالنجف، رصاص حيّ وقذائف ومولوتوف، وجرحى بالعشرات. هذا مشهد أكبر قليلاً من كونه مجرد فتنة. هذه كارثة.

قبل أيام كتبت أن "الأخوة الصدريين يريدون للناس جميعًا أن يكونوا صدريين مثلهم، في طاعتهم وتقديسهم للصدر، وهذا أمر محال وخطر في الآن ذاته، وكل طلب للمحال هو خطر وينذر بكارثة". وقتها اعترض الصدريون على قولي هذا، وسيعترضون الآن كذلك، قالوا وقتها وسيقولون الآن إننا لا نريد من الآخرين أن يكونوا صدريين أو طائعين للصدر مثلنا، لكنهم وإن أنكروا ذلك فهم يتصرفون بمقتضى هذه الرغبة المستحيلة، رغبة أن لا يروا أحدًا لا يماثلهم في هذا التقديس وتلك الطاعة.

الصدر عند الصدريين معصوم، وإن لم يقولوا ذلك علانية، بعضهم يقول بعصمة ثانوية له، والبعض لا يقول بها لكنه يتصرف بمقتضاها

وأمس كتبت بما مؤداه أن موقف جعفر الصدر أفضل من موقف مقتدى الصدر، فثارت ثائرتهم، هددني كثير منهم "أحتفظ بتهديداتهم" وكفرني آخرون وشتمني كلّهم.

هذه محنة كبرى علينا أن نتكاشف بشأنها، لأني أظنها مفتاح فهم ما جرى، ليس في النجف وحدها، بل ما حدث خلال الأيام الماضية في ساحات الاحتجاج.

الصدر عند الصدريين معصوم، وإن لم يقولوا ذلك علانية، بعضهم يقول بعصمة ثانوية له، والبعض لا يقول بها لكنه يتصرف بمقتضاها، بدليل أنك إذا قلت له إن السيد الصدر أخطأ هنا مثلاً في هذه التفصيلة سيجابهك كما لو أنك قلت كفرًا وستنتهي إلى حفلة شتائم يتقنها بعضهم ببراعة.

اقرأ/ي أيضًا: الصدر وانتفاضة تشرين.. من عثر على الآخر؟

لا أظنّ أن أحدًا من هؤلاء الشتامين أو المهددين بالقتل التقى الصدر بقدري أو تحدث معه بقدر ما تحدثت معه، أو دافع عن الصدر بقدري حين كان الصدر يُظلَم بسبب مواقفه الوطنية فعلاً "موقفه السابق من النفوذ الإيرانيّ، موقفه من الفساد والأهم موقفه من إجراء حوار مجتمعيّ بين العلمانيين والإسلاميين، وهو أمر حاولنا أنا وثلة من الأصدقاء "أذكر منهم د. فارس كمال نظمي، مشرق عباس، سرمد الطائي، جاسم الحلفي وفارس حرام"، حاولنا بأمل كبير أن ننجزه فصدمنا بعدم رغبة جمهور الطرفين في تحقيقه، وكنا في الأرض الحرام بين جيشين متحفزين للقتال. جوبهنا بالسخرية والتخوين من كلا الطرفين.

كل أبناء التيار الصدري، لا يسمحون اليوم ولم يسمحوا أمس ولن يسمحوا غداً بأن يقال لهم إن الصدر أخطأ، مع أن الرجل يشتغل سياسة، يلعب سياسة، والسياسة ابنة الخطأ، حليفة الغلط والتعلّم من الغلط وتكراره أحيانًا. السياسة مستنقع أخطاء، والبارع فيها هو من يحرز أخطاء أقلّ.

ارتكب الصدريون  أخطاء كبرى جعلتهم في الجهة المضادة لأغلب المحتجين الشباب

كلنا في مرمى سهامهم اليوم، أعني كل الذين يرون أن الصدر أخطأ بإقحامه القبعات الزرق بهذه الطريقة، باستيلائهم على المطعم التركي، بحملهم أسلحة بيضاء أولاً ثم أسلحة "سوداء"، بضربهم كل من هتف ضد علاوي، بانجرارهم إلى استفزاز الشاتمين لهم، بانقلاب خطابهم 180 درجة وتطابقه مع خطاب الفاسدين الذين يسمون المتظاهرين جوكرية وأمريكان، بتبريراتهم المضحكة "الموثقة" بصور لعلب البيرة والويسكي "وكأن المتظاهر في التحرير كان بحاجة إلى الاعتصام ليشرب الخمر ولا يعرف طريق البتاوين القريبة منه"!

كل هذه أخطاء، أخطاء كبرى، جعلتهم في الجهة المضادة لأغلب المحتجين الشباب، ومن الطبيعيّ أن ينصرف ذهن المحتجين بعد هذه الأخطاء إلى تصوّر أن الصدريين عازمون على إنهاء الاحتجاج بأي ثمن، وأنهم يريدون التصادم معهم، وهو أمر حدث للأسف.

هل يسأل الصدري نفسه: لمَ كان السيد الصدر آخر المشتمومين من رؤساء الكتل؟ لمَ لمْ يتناوله المحتجون بسوء طوال هذه السنوات؟ ليس بسبب الخوف ولا بسبب التقديس طبعًا، بل لأنه ببساطة لم يكن يقف ضدّ الاحتجاج.

أما الآن وقد جعل الصدريون من أنفسهم فرقة لها حقّ تنظيف الساحة بالقوة دون الرجوع إلى مَنْ في الساحة، فقد اختطوا لأنفسهم خندقًا في مقابل خندق سائر المحتجين الآخرين، وليس عليهم أن يستغربوا من ردة فعل المحتجين على أخطائهم، وسينسى الناس سريعًا أن كثيرًا من شهداء هذه الثورة هم صدريون. ذاكرة الناس ضعيفة والسيئات يذهبن الحسنات أيضًا.

لا أظنّ أن أحدًا أنصف الصدريين مثلي فيما مضى. واليوم أيضًا أريد أن أنصفهم لأقول لهم: أنتم مخطئون، مخطئون حين تريدون حماية الاحتجاج بهذه الطريقة التعسفية. مخطئون كما أخطأ السيد الصدر حين راهن على علاوي رئيسًا للوزراء، مخطئون حين تشيطنون الثوار كما تشيطنهم قنوات الفساد، مخطئون في هجومكم على كل من يتوجه بالنقد إليكم، مخطئون حين تريدون الهيمنة على ساحات الاعتصام. مخطئون في حملكم السلاح. مخطئون في توجيه التهديدات يمنة ويسرة لمن يخالفكم. أنتم تغامرون بمحو الصورة التي أعطيتموها للناس عنكم في السنوات الماضية، تغامرون بجعل أنفسكم مرة أخرى فصيلاً مسلحًا، أهمية كل أفراده أنهم مجرد أصابع يضغطون على الزناد. ليس هذا ما عرفته عنكم خلال هذه السنوات، ولا أتمنى أن أكون مخطئًا.

في اليوم الذي تتقبلون فيه حقيقة أن السيد مقتدى الصدر ابنُ آدم، وكلّ ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ستتقبلون عبارة "السيد أخطأ" تسمعونها من أفواه ليست عدوّة لكم بالضرورة.

ما نحن فيه ببساطة شديدة هو بداية احتراب أهليّ وانقسام مجتمعيّ حادّ ينذر بحرب

لا أظنّ أن أحدًا تكلم معكم بصراحة كهذه من قبلُ، وهي صراحة ضرورية لفهم ما نحن فيه. وما نحن فيه ببساطة شديدة هو بداية احتراب أهليّ وانقسام مجتمعيّ حادّ ينذر بحرب، انقسام سببه أخطاء المدنيين المتمثلة بالتحسس منكم والتنمّر عليكم طويلاً، وقد كتبت في هذا كثيرًا، ثم أخطاؤكم وخطاياكم التي رافقت الثورة منذ بدايتها واتضحت للعيان هذه الأيام.

هل تعلمون أنكم الآن أقرب إلى الطرف الثالث؟ حين تريدون للاحتجاج أن يكون على مقاسكم ووفقًا لشروطكم فإنكم لا تفعلون شيئًا سوى ما يفعله ويريده أي فصيل مسلح آخر من الفصائل التي يشتمها المحتجون ليل نهار.

اقرأ/ي أيضًا: العصي والهروات في مواجهة وعي الحقوق

هناك مندسون في الاعتصام؟ بالتأكيد وهناك من دفعتهم أحزابهم ليكونوا مع المعتصمين، وهناك الطارئون وهناك المتسلقون والأدعياء، لكنْ هذا دأب كل حراك، لا توجد ثورة معقّمة. ومن يرد تعقيم ثورة ما يقمعها من حيث يشعر أو لا يشعر. لا توجد ثورة على مقاس وشروط أحد.

أكتب هذا وأعرف أنه لن يرضي أحدًا. لن يرضيكم لأنّ فيه تشكيكًا بعقيدتكم غير المكتوبة التي تعتنقونها من دون الإفصاح عنها والمتمثلة بتكفير من لا يقول بمعصومية السيد الصدر وبتكفير من يقول بأنه أخطأ. ولن يرضي المدنيين المجروحين بخذلانكم لهم، الذين يريدون تصعيدًا في اللهجة حيالكم. لكن عزائي أني لا أكتب لأرضي أحدًا. أكتب لأرضي ضميري ولأحاول درء احتراب مجتمعي حاولت أنا وأصدقاء أن نتجنبه.

وهو ما يعيدني إلى السؤال الأول:

هل فات الأوان على درء الفتنة؟

الأمر بيدكم، أقصد بيد السيد الصدر وحده: أن يسحب القبعات الزرق من الساحات، وأن يترك للثوار إكمال ثورتهم وأن يمارس دوره في إسداء النصح لا في تعبئة الصدريين لصنع ثورة خاصة بهم وفرضها على الآخرين، وأن يقولها بوضوح أنه هو من اختار رئيس الحكومة الجديد، وأنه يتحمل نتائج ذلك الاختيار وأنه سيقيله بالطرق الدستورية إنْ لم يف بوعوده والتزاماته.

الأمر بيد الصدر وحده: أن يسحب القبعات الزرق ويترك للثوار إكمال ثورتهم ويمارس دوره في إسداء النصح لا في تعبئة الصدريين لصنع ثورة خاصة وفرضها على الآخرين

هذه نصائح صديق لكم. صديق مخذول، محبّ لكم، لكنه محبّ لهذه الثورة الشبابية التي هي أعظم ما حدث في العراق منذ تأسيسه.

كنا معاً أيام المحن، لسنوات كنا معًا نقاتل الوحوش ذاتها، لكني الآن مع الثورة، التي لو وقف العالم كله ضدها فسأكون ضدًا للعالم.

لم يبق في عمري متسع لأغير مكاني، خاصة وأني على يقين من أني في الجهة الصحيحة من العالم: أنا مع ثورة الشباب.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حراك الصدر الأخير... قراءة في الأسباب والمآلات

مقتدى الصدر.. قبل نفاد الوقت