27-أغسطس-2020

الضمان الوحيد لديمومة الفعل الاحتجاجي هو التضامن السياسي (فيسبوك)

يندر العثور على ذات منعزلة في هذا العالم. ومهما اتسع مفهوم العزلة فلا يمكنه نفي العلاقة وإنكارها مع الآخر. الاجتماع البشري قائم على هذه العلاقات الاعتمادية. في هذه العلاقات ينتفي دور النقاط المرجعية، ويتلاشى فيها الأصل، ولا تنحصر الأهمية في رأس الهرم فحسب، بل هو مجموع أجزائه، ولا وجود لمفهوم "الهرم" لولا الأخذ بنظر الاعتبار جميع تفاصيله. كما لا يمكن إطلاق مفهوم "مجتمع" على فرد واحد ما لم يأخذ مجموعة من الأفراد في هذا المفهوم، ففي النهاية هو مفهوم مُنتزع من هذا المجموع البشري. لو تأملنا في مفهوم الحاسوب، أين هو بالضبط: في الشاشة، الإطار، لوحة المفاتيح، التفاصيل الالكترونية الدقيقة، الأسلاك؟ واضح أنه لا ينفرد أحد هذه الأجزاء بمفهوم الحاسوب، فلو قلنا إن الشاشة هي الحاسوب لجانبنا الحقيقة، ذلك أن الحاسوب هو كل أجزائه مجتمعة. ضمن هذا المنظور فالعالم تحكمه العلاقات الاعتمادية، بل هي قدر حتمي للبشرية رغم التحديات التي تخلقها أنانية البشر.

التضامن السياسي ليس معطى جاهز، وإنما تقوم به فئات اجتماعية وتتضامن فيما بينها من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية

مهما اتخذت حياتنا أشكالًا مختلفة، فسيبقى العنصر الأبرز هو التضامن. لا أدعي هنا وجود قصدية واضحة لمعنى التضامن بين أفراد المجتمع، فالأنانية  والتنافس المحموم هما العنصر الغالب على مجمل سلوك البشر. وآخر ما نتأمله ونعقد عليه الآمال هو التضامن الاختياري! أو نحلم بمشاعية بشرية في وقتنا الراهن. أتكلم هنا عن تضامن غير معترف به، وعادة ما ينتفع أحدنا من الآخر بطريقة غير مباشرة؛ كالتماهي مع أحد الشخصيات المُحَببة إلينا ونستلهم منها ما يعزز هويتنا الشخصية، وقراءة ما يكتبه الآخرون والتعلم منه قدر الإمكان، ويمكن استنتاج الكثير من السلوكيات المماثلة بخصوص هذا الشأن. وكثرة الأمثلة ستحيلنا إلى سلسلة طويلة من العلاقات الاعتمادية التي يمكن وصفها بعلاقات تضامنية، غير أن الاستنتاج سيعتمد على مقدمات بعيدة، وتحتاج هذه الأخيرة لبصيرة عميقة لتذوّق هذه الحقيقية التضامنية، لذا يكفي المرور السريع والأمثلة القليلة، لننشغل بمستويات التضامن الأكثر وضوحًا.

اقرأ/ي أيضًا: عن الذات المحاربة

إن التضامن الذي أقصده بالذات ذو شقين: الأول أستطيع أن أسميه "بالتضامن الوجودي" الذي يتجلى في أعقد العمليات الطبيعية والبشرية؛ الذرّات تتحد فيما بينها وتشكّل كيانًا جديدًا، ومن الصعب للغاية العثور على كيان متفرّد ما لم يكن في الأصل عملية تركيبية. لكن يبقى إطلاق سمة التضامن على العمليات الطبيعية يتخذ صفة المجاز، والسمة الأقرب لهذه العلميات هو "الاعتماد"، أي اعتماد كلا الطرفين على الآخر. ذلك أن التضامن علاقة بين طرفين عاقلين مختارين، إذ يبقى التضامن قدر الكائنات العاقلة. لذا يمكن القول إن الثنائيات في الطبيعة قوامها الاعتماد، وفي الاجتماع البشري قوامها التضامن، وفي النتيجة يندرج هذين الاثنين تحت مفهوم التضامن الوجودي.

 تفرز لنا العلاقات البشرية نمطين من التضامن على الأقل: التضامن الاجتماعي، والتضامن السياسي. النمط الأول كما أسلفنا يحتاج إلى مقدمات بعيدة وبصيرة عميقة لفهمه، ذلك أن سلوك الأفراد داخل المجتمع لا يحمل علامات الاعتراف بالتضامن، بل هم أقرب للمنافسة المحمومة منهم إلى التضامن. إنهم منافسون وليسوا مساهمين. فمن الصعب علينا المضي قدمًا في إثبات حالة التضامن الاجتماعي في ظل طبيعة صراعية محمومة. يبقى الدور المهم على الفئات الاجتماعية التي تقوم بهذا الدور المتقدم، ويُتَرجم هذا الدور عادة على شكل حركة اجتماعية حينما يطالها التهميش والإقصاء وحرمانها من دورها السياسي المنشود، فمن هنا يتجلى أول ظهور للتضامن، وأعني به التضامن السياسي، فهو ليس معطى جاهز، وإنما تقوم به فئات اجتماعية وتتضامن فيما بينها من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية.

هذا هو الفرع الثاني من التضامن، وهو المطلوب والمقصود، وبخلافه تنعدم كل أشكال التأثير. إن باقي الأنماط التضامنية التي نعثر عليها في المجتمع العراقي، على سبيل المثال، كالهبات، ومساعدة الفقراء، والنشاطات الدينية المتنوعة التي يتسع فيها معنى التضامن، مضافًا إلى ما شهدناه من أرقى أشكال التضامن في انتفاضة تشرين، كالإمداد اللوجستي، ومختلف التبرعات الأخرى، لا يخلق مجتمعًا سياسيًا متماسكًا، لأنه ستزول آثاره بالتدريج بعد نهاية الحدث الاحتجاجي. وبالتالي، إن الضمان الوحيد لديمومة الفعل الاحتجاجي هو التضامن السياسي، وبخلافه لا نحصد سوى الخسائر الفادحة، وهذا ما شاهدناه من عنف السلطة المميت ضد الاحتجاجات الأخيرة.

إن العقبة الكبيرة التي تواجه التضامن السياسي هو شيوع حالة التذمّر والأمزجة الشخصية وكراهية التنظيم السياسي. وهذا يضعنا في تناقض كبير؛ في الوقت الذي نريد فيه "إسقاط النظام"، والتنديد بالفساد المستشري في الوسط السياسي، لا نريد بذات الوقت تنظيم أنفسنا، ما يضعنا في دائرة مغلقة لا منفذ لها سوى الحيرة التي طبعت بميسمها نفسية العراقيين عبر تعايشهم الطويل مع الاستبداد. وعلى سبيل التمثيل وليس الحصر، هنالك ثلاثة قنوات للتغيير السياسي أمام العراقيين: القناة الأولى هي المقاهي والأماكن العامة، لتبادل الأحاديث الحلوة ومناقشة أهم الأحداث السياسية هناك! والقناة الثانية؛ هو الاحتجاج المستمر، غير أن الاحتجاج لا يتموضع بمكان أو بحالة معينة. والقناة الثالثة هو التنظيم السياسي، وهذا الأخير لا يعبّد الطريق بالورود بالتأكيد، لكنه يعبر عن أرقى درجات التضامن، وهو الضمان الوحيد لتأطير عملنا السياسي بشكل عقلاني. فعلى الأقل سيضمن لنا مزيّة نفتقدها نحن المحتجين، ألا وهي الممارسة السياسية. ومن الضروري للغاية زج الجيل الجديد في معركة العمل السياسي، فنحن بذلك نضمن انتقال العمل الاحتجاجي لمستويات رفيعة، لكي نغادر الفعل الحماسي، ذلك أن الاحتجاج إستراتيجية طويلة الأمد، وليس تكتيكًا تنحصر فعالياته في شارع عام أو مركز المدينة. إن ختام العمل الاحتجاجي لهذا الجيل المعارض هو كيفية الوصول للسلطة وممارسة العمل السياسي المعارض داخل قبة البرلمان، وما عدا ذلك سنقدم وجبة إحباط دسمة للمجتمع العراقي، وستنتهي عاجلًا أم آجلًا كل أشكال التضامن التي حظينا بها سابقًا، وتعدم الخيارات لدرجة الصفر، وكلما ضعفت جبهة التضامن السياسي بين المحتجين، ارتفعت هناك حظوظ الجبهة المضادة. وفي ذلك الحين لا يبقى سوى خيار العدمية في نهاية المطاف.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ذاكرة الدم والاستبداد

نادي المتذمرين